منذ بضع سنوات، والمؤسسات الصحفية العربية تعيش وضعاً قد يوصف من دون أية مبالغة بالمأساوي.. القسم الأكبر من هذه المؤسسات، حتى تلك التي تُعتبر من الرواد في هذا الجزء من العالم، بات يجد صعوبة فائقة في البقاء على قيد الحياة.
هذه المؤسسات تواجه اليوم تحديات غير مسبوقة، تتمثل بالطبع في انخفاض جمهورها وتراجع إيراداتها، ومعظم بيوت الصحافة العربية للأسف غير مهيأة لمواجهة تلك التحديات، ولا سيما التحديان الناتجان عن مجيء العصر الرقمي وتسارع تأثير الوسائط الاجتماعية، حيث أصبح من السهل للقرّاء الوصول إلى مجموعة واسعة من المعلومات والأخبار من مصادر متنوعة، وللأسف تفتقر معظم المؤسسات الصحفية العربية وحتى العالمية إلى القدرة على التكيف مع هذه التغيرات ومواجهة التحديات التي تنتج عنها.
هذان التحديان هما «اقتصاد التشتت» والـ«كليك بيت» (Clickbait).
اقتصاد التشتت (Economy of Disruption) هو مفهوم حديث يُعنى بدراسة التأثيرات الاقتصادية الناجمة عن التحولات السريعة والابتكارات المتواصلة كالسيل في العالم الرقمي والتكنولوجي.. ويشير هذا المفهوم إلى «تفكك النظام الاقتصادي التقليدي وظهور نماذج اقتصادية جديدة بفعل التقدم التكنولوجي والابتكار».
في جانبه التقني، يتعلق اقتصاد التشتت بتأثير التكنولوجيا والابتكار على الصناعات التقليدية.. فالتقنيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي، والتحليلات الضخمة للبيانات، غيرت الكثير بالفعل ليس فقط من وسائل الإنتاج والتوزيع بل كذلك طبيعة وسبل الاستهلاك، فبات من السهل للأفراد أو المؤسسات الصغيرة جداً منافسة «اللاعبين التقليديين»، أي كبرى الشركات التي احتكرت الإنتاج والتوزيع لعقود طويلة.
اقتصاد التشتت
إذاً، «اقتصاد التشتت» بوسعه فتح آفاق جديدة وفرص غير مسبوقة في الكفاءة والابتكار، ويعطي أملاً للأفراد الطموحين بمنافسة لاعبين كبار لم يكن ليجرؤ أحد على منافستهم من قبل، ولكن هذا النوع من الاقتصاد تسبب أيضاً في خلق تحديات اقتصادية معقدة تسببت في إفلاس كثير من الصناعات والمؤسسات التقليدية.
في المجال الصحفي، كان لاقتصاد التشتت أثر مزلزل على معظم المؤسسات العربية، فمع تطور الإنترنت والوسائط الاجتماعية، بات من السهل على القراء الوصول إلى كم هائل من الأخبار والمعلومات من مصادر متنوعة.. ومع تزايد تلك الخيارات في شكل متواصل أصبحت المؤسسات الصحفية في وضع لا تحسد عليه وهي تحاول عبثاً جذب قراء جدد أو حتى الاحتفاظ بجمهورها التقليدي، وذلك بسبب تشتت انتباههم وصعوبة البقاء في منافسة مع صانعي المحتوى الرقمي المنافس المستقلين الذين انتشروا كالفطر بسبب سهولة صنع المحتوى ونشره اليوم بفعل التقدم التكنولوجي.. كما أن هؤلاء المنافسين يعملون بميزانية لا تكاد تذكر مقارنة بالميزانيات الضخمة التي ترهق كاهل المؤسسات التقليدية.
في ما مضى من «الزمن الجميل»، كانت الصحف الورقية أو المجلات الإخبارية الرئيسية هي المصدر الأساسي للأخبار والمعلومات.. اليوم، أصبح أمام الناس خيارات متعددة بفضل الإنترنت، وبالوسيلة التي يفضلونها، كتويتر أو فيسبوك أو يوتيوب.
أن تفقد قُراءك ذلك يعني بديهياً تراجع الإيرادات الإعلانية وتنامي صعوبة جذب المشتركين، فالقراء الذين يمتلكون خياراً واسعاً من المصادر الإخبارية المجانية غير مستعدين بالطبع لدفع رسوم اشتراك للحصول على المحتوى نفسه، ما أفقد كثيراً من مؤسساتنا العربية القدرة على تغطية تكاليفها.
التحدي الثاني هو انتشار ثقافة ما يسمى بـ«الكليك بيت» سيئة الصيت في الوسط الإعلامي.
نجاح مؤقت للـ«كليك بيت»
يشير مصطلح «الكليك بيت» إلى استراتيجية تستخدمها بعض المواقع الإخبارية المنتشرة على الإنترنت لجذب الزوار والإيرادات من خلال عناوين مغرية ومثيرة للفضول، ربما لا تعكس في كثير من الأحيان طبيعة المحتوى أو الخبر.
وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية تعتبر فعالة، في شكل انتهازي بالطبع، من حيث الحصول على المزيد من الانتشار والمشاركة على وسائط التواصل الاجتماعي، فإنّه من المؤكد أنها تؤثر سلباً على مصداقية الأخبار، كما أنها أصبحت تجبر كثيراً من المؤسسات التقليدية الرزينة على مجاراتها ما أثر سلباً كذلك على سمعة ومصداقية تلك المؤسسات العريقة، التي باتت تستخدم الاستراتيجية ذاتها منافسةً بذلك المئات من صانعي المحتوى المجهولين.
استراتيجية «الكليك بيت» قد تنجح مؤقتاً في زيادة عدد زوار موقع الصحيفة عبر عناوين مثل «حقائق صادمة» أو «فضيحة جديدة» إلى ما غير ذلك، ولكن هذا في الواقع ليس أكثر من فخ نُصب لتلك المؤسسات ففقد كثير منها قيمته المهنية وبات يدور في دوامة «الكليك بيت» غير مدرك أنه يفقد قراءه ومصداقيته شيئاً فشيئاً.
فانتشار هذه الثقافة الانتهازية، وغير المهنية، أدى إلى انتشار «الأخبار الزائفة» ما أدى طبيعياً إلى تراجع الثقة في وسائل الإعلام التقليدية، حيث بات من الصعب التفريق بين الحقيقة والكذب أو التفريق بين مؤسسة صحفية عريقة موثوق بها وموقع إخباري مجهول، وذلك لا شك يشكل تهديداً وجودياً لمستقبل الصحافة التقليدية والمهنية القائمة على تقديم الأخبار الموثوقة والموضوعية.
في هذا المجال، يشار دائماً إلى صحيفتي «فايننشال تايمز» و«نيويورك تايمز» اللتين باتتا نموذجين يحتذى بهما في التغلب على تلك المغريات والبقاء أمينتين لرسالتهما الإعلامية وفي الوقت ذاته كسب المزيد من الأرباح عبر التمسك بالتقاليد الصحفية المهنية.. يعود نجاحهما بالتأكيد إلى قدرتهما على الحفاظ على قرائهما وجذب المزيد من القراء الجدد المستعدين لدفع رسوم الاشتراك بسبب المحتوى الأصيل والموثوق به الذي تقدمانه، حيث لا تزال الصحيفتان تركزان على القصص الاستثنائية المشغولة بحرفية والتحليلات والمعلومات الموثوقة التي تلبي احتياجات وفضول جمهورهما.
بالطبع، من غير السهل نسخ تجربة عريقة كتجربة «نيويورك تايمز» ذات الشبكة الهائلة من المحررين والمراسلين ومصادر الأخبار، ولكن ليس من الصعب على بيوت الصحافة العربية التمسك بتقاليدها المهنية والعودة إلى سكة الأخبار الموثوقة والقصص المشغولة بعناية بعيداً عن اللهاث في سباق خاسر منذ البداية ضد المئات أو الآلاف من المواقع المجهولة.
* محمد المزعل صحفي وإعلامي ذو خبرة تمتد إلى نحو 30 عاماً، عمل رئيس تحرير لموقع «غلف نيوز» بالإمارات لمدة 20 عاماً، ورئيس القسم الخارجي في صحيفة الخليج، وهو الآن يعمل استشارياً إعلامياً.
** الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر «CNN الاقتصادية».