في يوم واحد خلال صيف 2022، ألغت شركات الطيران الأميركية أكثر من 800 رحلة مُجدولة وأجّلت نحو 6500 رحلة أخرى بسبب الافتقار لما يكفي من طيّارين لقيادة هذه الرحلات.
لا يبدو أن هذه الأزمة سوف تنفرج قريباً، إذ تتوقّع شركة «أوليفر وايمن» الاستشارية أن تستمر حتى عام 2032، بل وأن تزداد حدّةً، لتكون أشدّ قسوةً في الولايات المتّحدة ومنطقة الشرق الأوسط.
وفي الواقع، لم تبدأ أزمة نقص الطيّارين مع تفشّي جائحة كورونا وتوجّه الشركات إلى تسريح الطيّارين بسبب توقّف الطلب، بل تعود إلى أعوام خلت، وقد اشتدّت بمرور الوقت.
عودة إلى الجذور
مع النهوض الهائل الذي شهده الاقتصاد الصيني في مطلع القرن الواحد والعشرين، توسّعت الطبقات الوسطى الصينيّة، وجرت تنمية البنية التحتية المحلّية، لا سيّما المطارات، ما أدى إلى بروز طلبٍ هائلٍ على الطيران وبالتالي على الطيّارين.
عملياً، لم تكن الأسواق الصينية المحلّية كافية لتغطية الطلب المحلّي الجديد، ما دفع الشركات الصينية الى تقديم عقود مُغرية لجذب الطيّارين، وبالفعل تدفّق الطيّارون من البلدان الغربية والشرق الأوسط نحو الصين مستفيدين من العروض الممنوحة.
ترافق نموّ الطلب الصيني مع زيادة هائلة في كلفة تعلّم الطيران، على سبيل المثال ارتفعت كلفة تعلّم الطيران في بريطانيا من نحو 55 ألف جنيه استرليني إلى نحو 100 ألف بين عامي 2007 و2017، ما ألقى بعوائق إضافية أمام نمو قطاع الطيران عبر تقويض قدرة العديد من الطلاب الراغبين في الالتحاق بمدارس الطيران.
ومع بدء الجائحة، وبدلاً من استفادة شركات الطيران من توقف حركتها والتوجه نحو تدريب طيارين جُدد لسد العجز السابق والذي سوف يتجدد بعد انقضاء الجائحة، قامت معظم الشركات بتسريح الطيارين، وفضلت تلك الشركات الأرباح قصيرة المدى على استراتيجيات تحل المشكلة الأصلية.
لا حلول سريعة
من المُستبعد أن تبقى الأزمة على حالها في السنوات المقبلة، بل من المرجّح أن تسوء أكثر لعدة أسباب، منها ضعف إمداد الطيران التجاري بطيارين حربيين سابقين مع توجه الجيوش إلى استخدام المسيرات بدلاً من الطائرات، بالإضافة الى شيخوخة القوى العاملة من الطيارين وتوسع الطبقات الوسطى في بعض الدول النامية، لا سيما في الهند، ما سيرفع بدوره الطلب.
تستعدّ الحكومة الهندية والشركات الخاصة الهندية لهذا الارتفاع في الطلب، وقد سعت الحكومة الهندية إلى مضاعفة عدد المطارات منذ عام 2014، فيما وضعت شركة الطيران الهندية المملوكة من شركة «تاتا» طلبية لأكثر من 450 طائرة، بينما وضعت شركة «إنديغو» طلبية لعدد 500 طائرة جديدة.
وللمقارنة، يتجاوز هذا العدد مجموع الطائرات الموجودة حالياً في الهند، والذي يبلغ نحو 700 طائرة.
عملياً، لن يؤدّي هذا التوسّع إلى إعادة الطيّارين الهنديين من الشرق الأوسط فحسب، بل سوف يجذب الطيّارين الأجانب أيضاً إلى الهند، كما حدث مع الصين قبل سنوات، في المقابل لا توجد حلول للأزمة المرتقبة في المدى المنظور، فتدريب الطيّارين واكتسابهم الخبرة المطلوبة يتطلّب سنوات عدّة قبل تمكّنهم من قيادة طائرة.
يشهد القطاع حالات إلغاء لرحلات، ومن المتوقّع أن ترتفع الوتيرة في السنوات المقبلة، ما سيعرقل حركة عشرات الآلاف من المسافرين.
وتجري بعض المحاولات لإيجاد حلول سريعة، لكن دونها مخاطر جمّة فيما تأثيرها على معالجة الأزمة محدود، وعلى سبيل المثال تقدّم السيناتور جون ثون من ولاية داكوتا الشمالية بمشروع قانون يقلّل من الخبرة المطلوبة قبل تمكّن الطيّارين من قيادة الطائرات التجارية، وهو ما ينطوي على تهديد لسلامة الطيران.
كما طرحت لجنة النقل في مجلس الشيوخ الأميركي مشروع قانون لرفع سن تقاعد الطيّارين من 65 سنة إلى 67 سنة، لكنّه جوبه بمعارضة شرسة من نقابة الطيّارين كما من بعض الساسة، وبالأخص من طيارين سابقين في الجيش الأميركي كالسيناتور تامي داكورث.
وبغض النظر عن ذلك، وحتّى لو ذُلّلت العقبات وشُرِّعت القوانين، فتأثيرها على السوق سيكون هامشياً في أفضل الأحوال، بحسب عضو مجلس الشيوخ ريك لارسون.
سياسات مُقترحة
للحدّ من الأزمة، يجب أولاً تذليل العوائق المُتعلقة بالجنسية في سوق العمل العالمية، ولا سيّما الأسواق الغربية التي لا تسمح بقيادة الطائرات لطيّارين باستثناء من يملكون حق العمل بتلك الدولة، وذلك للاستفادة من الطاقات الموجودة غير المُستغلّة.
ففي الصيف الماضي، ألغت الشركات الأميركية رحلات عدّة فيما كان آلاف الطيّارين في أميركا اللاتينية عاطلين عن العمل، بحيث إنّ حركة الطيران استُؤنفت في أميركا الشمالية بعد جائحة كورونا بسرعة أكبر من المناطق الأخرى.
ومن أجل الحدّ من وطأة الأزمة، ألغت شركات أميركية خطوط طيران محلّية واستبدلتها بمسالك برّية، ولاستنساخ هذه التجربة عالمياً يجب إزالة العوائق المُتعلّقة بالجنسية ورخصة قيادة الطائرات.
وعلى سبيل المثال، يمكننا الاستفادة من طيّار لقيادة خطّ دالاس-ميامي الذي لا بديل برّياً عملياً له، بدلاً من خطّ لندن-باريس الذي له بديل عبر القطار السريع.
لكن الأمر غير متاحٍ حالياً، لأن حصول الطيّارين الأجانب في الولايات المتّحدة على إجازة عمل يستغرق نحو عامين، كذلك لا تقلّ تكلفة تحويل رخصة قيادة الطيران الأوروبية وغيرها إلى رخصة أميركية عن عشرة آلاف دولار، ما يدفع باتجاه استبعاد الأجانب.
يمكن أيضاً ربط شبكات الطيران بشبكات القطارات من أجل تقليل الطلب على الطيران وإلغاء الخطوط التي لها بديل.
تقتضي هذه السياسات ربط البنى التحتية الجوّية والبرّية بعضها ببعض، كما فعلت الحكومة الهولندية إلى حدٍّ ما في مطار سخيبول في أمستردام، يجب أيضاً على الحكومات تحفيز القطاع الخاص من مكاتب وشركات سفريات على عرض تذاكر تدمج بين رحلات جوّية وبرّية.
ويقتضي التصدّي للأزمة تدخّل السلطات المحلّية لدفع شركات الطيران نحو تغيير الهيكلة الداخلية للطائرات من خلال تقليل مقاعد درجة رجال الأعمال والدرجة الأولى وزيادة مقاعد الدرجة السياحية، بحيث تؤدّي البنية المُستحدثة للطائرات إلى رفع عدد ركّاب كلّ رحلة، إلّا أن إنجاحها يتطلب فرض ضرائب إضافية على الأرباح المُحصّلة من تذاكر الدرجتين الأوليين.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن دفع شركات الطيران ومن خلال التحفيزات الضريبية على الاستثمار في الطائرات ذات الجسم العريض، وتجهيز قدر أكبر من المطارات لاستقبالها، ما يرفع عدد الركّاب المستفيدين من كل رحلة.
إن التصدّي للأزمات مرتبط بابتكار الحلول العملية، وفي حين أن السياسات المُقترحة قد لا تحلّ الأزمة بالكامل، خصوصاً أنّ تصحيح مسار سنوات من الإدارة الخاطئة يتطلّب رؤى شاملة جديدة وأهدافاً استراتيجية مختلفة، لكنها تبقى أفضل من الوضع القائم، لأن السير بالسياسات نفسها إنما يعني تفاقم الأزمة.
* مروان شحيتلي طيار في شركة طيران الشرق الأوسط منذ ست سنوات وحائز على ماجستير في السياسات العامة والعلاقات الدولية من الجامعة الأميركية في بيروت.
** الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر «CNN الاقتصادية».