التوجه الراجح عند وسيم منصوري، نائب حاكم مصرف لبنان المركزي، الذي استلم مهام الحاكم رياض سلامة بعد انتهاء ولايته، هو إنهاء العمل بمنصة «صيرفة» تدريجياً، والسبب المعلن هو افتقارها للشفافية والحوكمة الرشيدة وضرورة التقيد بتوجيهات صندوق النقد بتوحيد سعر الصرف وتحريره ولعدم قانونية المنصة نظراً لأنها أُنشئت بموجب قرار استند لنص قانوني مقتبس من مرحلة سيادة سعر الصرف الثابت التي سبقت تأسيس مصرف لبنان.
والحل البديل المطروح إنشاء منصة إلكترونية بديلة بالتعاون مع «رويترز» و«بلومبرغ» تتحدد أسعار الصرف من خلالها بنتيجة بيع وشراء العملات دون تدخل من مصرف لبنان.. لكن هذا التحرك أيضاً مخالف للقانون الذي يطالب بهذا التدخل لضبط تقلبات سعر الصرف ضمن حدود معينة، وهو أمر لن يكون ممكناً عملياً لأن نواب الحاكم يتمسكون بفكرة أن الاستمرار بالسحب من الودائع بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان كما كان يفعل الحاكم سلامة سابقاً هو أمر غير قانوني لأن الودائع بالنهاية ملك المودعين.. وقد أكدوا ذلك في قرار اتخذه المجلس المركزي لمصرف لبنان بتاريخ 14 سبتمبر أيلول 2021.
ومع ذلك، لا يمانع نواب الحاكم في لقاءاتهم النيابية ومع رئيس الحكومة بصرف مبلغ محدود من الودائع لمدة قصيرة من الزمن لتأمين حاجات ملحة مثل الأدوية للحالات المستعصية وتأمين الاستقرار في دخول موظفي القطاع العام وأفراد الأسلاك العسكرية، وهم بنظرهم من الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع ومن المهم دعمهم لضمان استمرارية العمل في المؤسسات والإدارات العامة لزيادة إنتاجيتها.
المنحى المذكور أكده المنصوري في مؤتمر صحفي عقده صباح اليوم الأخير للحاكم سلامة في مصرف لبنان، وأضاف أنه يندرج ضمن برنامج عمل تم التوافق عليه في اجتماعات عقدها وزملاؤه مع المسؤولين، ويتضمن إقرار مجلس النواب للقوانين الإصلاحية المطلوبة وهي قانون «الكابيتال كونترول» وقانون «إعادة هيكلة المصارف» وقانون «إعادة التوازن المالي» إضافة إلى قانون إقرار موازنة عام 2023 وقانون آخر يجيز للحكومة الاقتراض من مصرف لبنان للاحتياجات الملحة الآنفة الذكر.
ولفت المنصوري إلى أن عملية تخطيط لتحديد وتوحيد و تحرير سعر الصرف تدريجياً سيجري العمل على اعتمادها بالتوافق مع مجلس الوزراء وسيكون الأمر من دون كلفة على مصرف لبنان ومن دون خطر انتكاسات في سعر الصرف لثلاثة أسباب، أولها أن الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية انخفضت من 80 تريليون ليرة إلى 60 تريليون ليرة، أي بنحو 25%، وثانيها أن جباية الحكومة اللبنانية تحسنت إلى نحو 20 تريليون ليرة بالشهر الواحد، أي نحو 11% منها جباية نقدية، وثالثها أن إيرادات الموسم السياحي كانت مجزية.
بعد ساعات من المؤتمر، تم تداول مسودة مشروع قانون أُعدت سريعاً لعرضها على مجلس الوزراء، وفي حال موافقته عليها تعرض على مجلس النواب لإقرارها.
تتضمن المسودة الإجازة للحكومة اللبنانية الاقتراض بالعملات الأجنبية من مصرف لبنان ومن الودائع لديه مبلغ تُرك تقديره للنقاش على أن تكون هناك إمكانية لتجديده لمرة واحدة وإعادته خلال 18 شهراً من دخل الدولة أو من نتيجة تدخلات مصرف لبنان في السوق بائعاً ومشترياً للعملات الأجنبية. ويمكن لمصرف لبنان تعليق القرض أو إيقافه في حال تبين عدم الالتزام بالقوانين الإصلاحية.
التوجه السابق انتقده نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي وحجته أن إضافة مبلغ مليار و200 مليون دولار، وهو المبلغ الذي يتم التداول بأنه سيكون قيمة القرض المطلوب لمدة 6 أشهر (بواقع 200 مليون دولار شهرياً) على الدين العام هو زيادة كبيرة، إذ يبلغ نحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهناك شبه تأكيد على أنه لن تكون هناك إمكانية لرد المبلغ من إيرادات الموازنة السنوية المقدرة بمليار وثمانمئة مليون دولار.. وفي حال تعذر الرد، فسيكون الأمر على حساب المودعين، علماً أن دعم الأجور في القطاع العام ليس من مهام السلطة النقدية، فكيف إذا كان هذا الدعم من أموال ليست لها؟ وكان نواب الحاكم أعلنوا مراراً في المدة الأخيرة تمسكهم باستقلالية مصرف لبنان وتوقفهم عن تمويل أي عجز أو دعم.
واضح مما سبق أن النية بالاستمرار بسياسة القضم من أموال المودعين بالعملات الأجنبية التي استقطبها مصرف لبنان من المصارف بأدوات وأساليب ملتوية لسنوات طوال قد بلغت آخر شرائحها وهي التوظيفات الإلزامية، وهناك تخوف من نواب الحاكم من الاستمرار بهذه السياسة، حتى ولو لفترة محدودة وبحجة تلبية احتياجات قدمت على أنها ملحة، دون غطاء سياسي وقانوني يقيهم من المساءلة القانونية.. ومن هنا يأتي ربطهم الاستمرار بسياسة القضم بإقرار السلطات مشاريع قوانين قدمت على أنها إصلاحية وهي ليست كذلك لأنها لم تتطرق إلى تحديد المسؤولين عمّا حصل لتحميلهم تبعات قراراتهم.
والتشوه المتوقع في مشاريع القوانين المطروحة يظهر من باكورة ما أُقر منها وهو تعديل قانون السرية المصرفية، إذ كان هناك إصرار ألّا يطبق التعديل بأثر رجعي حتى لا يتم الكشف عن انحرافات سابقة حصلت، بالمقابل يتضمن مشروع قانون «الكابيتال كونترول» إبراء ذمة المصارف من التجاوزات التي ارتكبتها بأثر رجعي.
جدير بالذكر أن تمرير مشروع قانون الإجازة للحكومة بالاقتراض من مصرف لبنان من الودائع بالعملات الأجنبية ليس بالأمر السهل ودونه صعوبات عديدة تبدأ بصعوبة توافق القوى السياسية عليه وتنتهي بأرجحية إعلان المجلس الدستوري عدم دستوريته لأسباب متنوعة منها عدم جواز طرحه من حكومة تصريف أعمال وعدم سلامة ارتكازه على فكرة التصرف بأموال الودائع المعتبرة ضماناً لاسترداد المودعين أموالهم بعملية الإقراض.
ما سبق يشير بوضوح إلى أن ساعة الارتطام الكبير وتفلت سعر الصرف من عقاله تدنو، وسيكون اللبنانيون عندها أمام حقيقة وهول ما آل إليه سوء الخيارات التي اختطتها قياداتهم الأصولية والوصولية على مر عقود من الزمن.. والحل عندها لن يكون إلا بتغيير شامل لهذه القيادات لأن أحداً لن يكون مستعداً للتوظيف والاستثمار في لبنان مع استمرارها.
* توفيق شمبور أستاذ محاضر في قوانين النقد والمصارف المركزية