برز الإعلام في أدبياته شريكاً روحياً للإنسانية أينما وجدت، ورديفاً صارخاً للحقيقة أينما دفنت، وحاملُ رسالة الإعلام سواء أكان صحفياً أم مراسلاً لطالما عانى الأمرّين حين الأزمات.
فغريزة الحقيقة تعلو أهميتها وشأنها عندما تحتدم الصراعات، حيث يراد طمس الحقيقة خدمةً للأجندات، ولكن هيهات هيهات، فلولا غريزة الحقيقة وحملتها النبلاء من الإعلاميين الشرفاء لكانت سردية الواقع والتاريخ من كتابة المنتصر لا صاحب الحق، ومن صنع القوة لا العدالة.
ولعل ما يجري في أحداث غزة اليوم هو شاهد على ما يمكن أن نسميه منبر الحقيقة النازف في عصر يتغنى بالحريات وحقوق الإنسان وقدسية وصول المعلومة وحرية التعبير، فها هم شهداء غريزة الحقيقة من الصحفيين الذين أرادوا خدمة الرسالة السامية لمهنتهم، وها هو حامل رسالة الحقيقة يتحول إلى شهيد هذه الرسالة المقدسة المتجلية بكشف حقيقة ما يحدث في ميادين النزاعات المسلحة والعمليات الحربية خدمةً للإنسانية.
وللأسف الشديد، كثرةٌ هم من يخشون منابر الحقيقة إبّان الأزمات، فيغضوا الطرف، لا، بل يغمضوا الأعين عن شعاراتهم الإنسانية بشأن حريات الشعوب المصانة وحقوق الإنسان المستهدفة لهؤلاء الصحفيين والمراسلين الذين يؤدون أعمالهم في هذه الظروف العصيبة بشغف رسالة الإعلام في إعلاء مشهد الحقيقة إنصافاً للإنسانية، حيث إن تلك الحرية المكفولة في القانون الدولي الإنساني، ورد ذكرها بخجلٍ لا يرقى إلى تلك التحديات والأخطار الداهمة بهم كلما اشتعلت بؤر التوتر في مكان ما.
إن تلك الحرية المكفولة عبر قوانين القانون الدولي الإنساني يضرب بها عرض الحائط كلما نشبت الأزمات هنا وهناك، وتُخرق بشكلٍ فاضحٍ ليس من تلك الجهات التي تحترم هذا القانون، ولكن من تلك الجهات التي هي خارجة عن القانون!
وكان نتاجاً لهذا الخروج الفاضح عن الحرية والحماية المكفولة من القانون الدولي الإنساني مقتل 1668 صحفياً خلال 20 عاماً، أي بمتوسط 80 صحفياً سنوياً ما بين عامَي (2003-2022) وفقاً لتقرير (مراسلون بلا حدود) لعام 2022 المنصرم، ولعل القائمة تزيد وتفيض بشهداء الإعلاميين في أحداث غزة اليوم.
لقد ورد ذكر هذه القوانين التي تحمي حقوق ممتهني مهنة الصحافة في معاهدات القانون الدولي الإنساني بدءاً من منتصف القرن الماضي بطريقتين مختلفتين، الأولى كما قلنا آنفاً بذكرٍ خجول وغير مباشر في اتفاقية جنيف الثالثة في العام 1949، المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب التي تغطي مراسلي الحرب، والثانية كنص صريح عقيم في البروتوكول الإضافي الأول في اتفاقيات جنيف الصادر عام 1977، الذي يتناول بشكل محدد مسألة الصحفيين الذين يقومون بمهام مهنية خطيرة في مناطق النزاع المسلح، وكلتا المعاهدتين تسري على النزاعات المسلحة الدولية.
وما يدعو إلى التشاؤم المشوب بالاستغراب، أنه بدءاً بالمادة 79 من البروتوكول الإضافي الملحق باتفاقية جنيف عام 1949 في إطار القانون الدولي الإنساني، ومروراً بالمادة 34 من الفصل العاشر من دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر عن القواعد العرفية للقانون الدولي الإنساني عام 2005، وانتهاءً بالقرار 1738 لمجلس الأمن الدولي في العام 2006، إلى جانب مشروع الإعلان العالمي لحماية الصحفيين الذي لم يبصر النور، ودساتير الدول بهذا الشأن التي لم تكترث جدياً بهذه الأمور، يبقى إعلام ميدان الأزمات والصراعات جرح الحقيقة الدامي. ولْيستمر مصطلح الأضرار العرضية معبراً مشتركاً حزيناً، ما بين مؤسسات إعلامية تتباكى على شهدائها، ودول وجهات تجافي شعاراتها، وقانون منظمات دولية لا تقوى إلا بكلماتها.
في النهاية وبعيداً عن المبالغة، أضحى الإعلام شريكاً استراتيجياً للسياسة والاقتصاد وجميع القطاعات بدون استثناء، ولكنه يتحول إلى عدو وخطر داهم حين تنفجر الأزمات لتلك الدول والجهات صاحبة الأجندات التي لا ترى دوراً لنبلاء الحقيقة في تغطية الصراعات والنزاعات، كونهم في نهاية الأمر سيف الحقيقة خارج غمد أجنداتها.
* محمد فراس النائب هو أستاذ في العلاقات الدولية ومستشار كلية الإعلام بالجامعة الأميركية في الإمارات، بخبرة على مدى 20 عاماً، أطلق خلالها الكثير من الطروح الاستثنائية والحلول المعرفية المتنوعة.
** الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر «CNN الاقتصادية».