من منّا لم يقف عند شرائه ما يريد حائراً، لا يعرف هل يستجيب للأوضاع الاقتصادية القاسية ليبدد البعض من مدخراته أم يتمرد عليها ويحافظ على القليل من أمواله والاقتصار على شراء الأساسيات فقط، تلك الحالة من التشوش في الاستهلاك تعبر عن شبح التضخم وارتفاع الأسعار الذي بات يطارد الجميع في الكثير من الدول حول العالم.

لنأخذ الولايات المتحدة على سبيل المثال، فقد هدأت وتيرة التضخم وارتفاع الأسعار في الأشهر الأخيرة، إذ انخفض في مايو أيار بنسبة 4 في المئة، بعد أن وصل ذروته في الصيف الماضي إلى أكثر من 9 في المئة، وفقاً لمؤشر أسعار المستهلك الذي يستخدمه مكتب إحصاءات العمل كمقياس للتضخم.

وتعرّض جيلا «الألفية» و«زد» لأعلى معدلات تضخم شهدتها أميركا في السنوات الماضية، ووفقاً لصندوق النقد الدولي فإن بداية جيل «الألفية» منذ عام 1982، بلغ معدل التضخم السنوي في أميركا نحو 2.9 في المئة، وتجاوز 4 في المئة لنحو ست مرات، علماً بأنه شهد الأزمة المالية في 2008، وجائحة «كوفيد-19» مؤخراً.

في الاقتصادات المتقدمة بشكل عام، بلغ معدل التضخم 2.4 في المئة منذ التسعينيات -وهي أقدم بيانات مجمعة متاحة لدى صندوق النقد الدولي- لكن فترة التضخم شديدة الانخفاض انتهت في عام 2021، بسبب عوامل منها الجائحة والغزو الروسي لأوكرانيا، وذلك وفقاً لبحث أجراه مجلس الاحتياطي الفيدرالي.

وفي 2021 ارتفع التضخم في الاقتصادات المتقدمة، من بينها دول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، إلى 5.3 في المئة، ووصل إلى 7.3 في المئة خلال 2022.

التضخم وارتفاع الأسعار في الاقتصادات الأقل نمواً

لكن بالمقارنة مع بعض اقتصادات الدول الأقل نمواً، فإن التضخم وارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة لا يوازي ما تعانيه المجتمعات فيها منذ سنوات؛ فوفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي عانت العديد من الدول منها السودان وفنزويلا من ارتفاع هائل في الأسعار، بلغ أكثر من أربعة أضعاف ما كانت عليه الأوضاع منذ عام فقط، بينما بلغت ضعف ما كانت عليه في 2021 في الأرجنتين.

بدأت فنزويلا تعاني من التضخم منذ الثمانينيات في القرن الماضي، لكنها شهدت تضخماً مفرطاً في عام 2018 إذ بلغ 130.000 في المئة، وذلك عندما اضطرت الحكومة إلى إنشاء عملة «بوليفار سوبيرانو»، بقيمة 100 ألف بوليفار قديم، بهدف تبسيط المعاملات.

في عام 2022، بلغ التضخم في فنزويلا 310 في المئة، وهو أعلى معدل في العالم في ذلك العام.

قال أندريس جيفارا، أستاذ الاقتصاد في جامعة أندريس بيلو الكاثوليكية في كاراكاس والرئيس التنفيذي لشركة «أومنيس» الاستشارية «إن المتقاعدين والعاملين في القطاع العام في البلاد هم الأكثر تضرراً».

وأضاف لشبكة «CNN» أن «الدولة تدفع معاشات التقاعد ورواتب موظفي الخدمة المدنية بالعملة المحلية، وعندما فقد البوليفار قيمته تأثرت القوة الشرائية».

من جهته، قال المتقاعد الفنزويلي نيلسون سانشيز لشبكة «CNN» إن «معاشي يمكّنني من شراء قطعة جُبن فقط»، لذلك تلقى المساعدة من أبنائه.

في الوقت نفسه، تأثرت الأجور مع ارتفاع الأسعار في الأرجنتين. قال إميليانو أنسيلمي، كبير اقتصادي شركة «بورتفوليو برسونال إنفرسيونيز» الاستثمارية في بوينس آيرس «هناك نقابات في بعض القطاعات الاقتصادية تطلب مراجعات كل شهرين».

وبسبب التضخم وارتفاع الأسعار المستمر أصبح الناس ينفقون أموالهم بسرعة، وأرجع أنسيلمي لشبكة «CNN» ذلك «لأن كل شيء سيكون أكثر تكلفة غداً، فإن الناس ينفقون أموالهم كما يتلقونها، ما يؤدي إلى زيادة التضخم».

في الاقتصادات المتضررة لا يوجد ائتمان، خاصة بالنسبة للأقل ثراء إذ لا مجال الاقتراض، ويضيف أنسيلمي «سوق الائتمان غير موجودة في الأرجنتين، إذا كنت ترغب في شراء منزل فعليك أن تجمع العملة تلو الأخرى وتدفعه مرة واحدة».

بينما تتصارع الحكومات مع مواردها المالية وجد الناس طرقاً للتعامل مع هذه الظروف، أحد الحلول الأكثر شيوعاً هو استخدام عملة أكثر استقراراً، خاصة الدولار الأميركي.

يعد استخدام العملة الأميركية في المعاملات أمراً شائعاً في فنزويلا، إذ لا يثق الناس في العملة المحلية المتقلبة، وفقاً لجيفارا، مضيفاً أن «تحسين التضخم في فنزويلا يتطلب مؤسسات أفضل بمزيد من الشفافية، لا توجد ثقة أو سيادة قانون، كما أن الأساس المؤسسي ضعيف، هذه هي المشكلة الأساسية».

في حالة الأرجنتين، يعتقد أنسيلمي أنه بعد انتخابات 2024 ستحتاج الحكومة الجديدة إلى تطبيق خطة استقرار لتقليل التضخم، قد تعزز الخطة من زيادة الفقر والصراع الاجتماعي، خاصة في الأشهر الستة الأولى، قائلاً «في عام 2024، ستواجه الأرجنتين الدم والعرق والدموع فقط».

التضخم في الدول العربية

تواصل حالة التضخم وارتفاع الأسعار تأثيرها على المجتمع العربي، فهناك لبنان الذي بلغ فيه التضخم مستويات قياسية، ومصر التي أصبح تضحية الناس باحتياجاتهم الضرورية الواحدة تلو الأخرى حالة يومية لا مفر منها، والسودان الذي بلغ التضخم فيه 318.2 في المئة خلال 2021، وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، بينما لا تتوفر بيانات عن سوريا.

انكمش الاقتصاد اللبناني بنحو 40 في المئة، وفقدت الليرة اللبنانية 98 في المئة من قيمتها، وخسر البنك المركزي ثلثي احتياطاته من العملة الأجنبية، وقال صندوق النقد إن عجز المالية العامة قد اتسع إلى 5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في عام 2022 بسبب انهيار الإيرادات، وأن عجز الحساب الجاري قد اتسع إلى ما يقرب من 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بسبب ارتفاع الواردات.

وفي مصر، قرر البنك المركزي الإبقاء على أسعار الفائدة دون تغيير خلال اجتماعه في يونيو حزيران، وذلك للمرة الثانية على التوالي رغم عودة معدل التضخم للارتفاع.

وفي مايو أيار الماضي، أقدم المركزي المصري على تثبيت أسعار الفائدة مع تباطؤ التضخم خلال أبريل نيسان الماضي، لكن التضخم عاد الشهر الماضي للارتفاع مرة ثانية مع ظهور تأثير ارتفاع أسعار الوقود في مصر.

وسجّل معدل التضخم السنوي في مدن مصر في مايو أيار 32.7 في المئة، بينما سجّل التضخم الشهري ارتفاعاً إلى 2.7 في المئة، وفقاً لبيانات جهاز الإحصاء المصري.

واستمر معدل التضخم الأساسي في الارتفاع مسجلاً 40.3 في المئة، وفقاً لبيانات البنك المركزي المصري.

على جانب آخر، توقع تقرير لمؤسسة «فيتش سوليوشنز» أن ينمو اقتصاد دول الخليج بواقع 1.9 في المئة خلال العام الجاري، متأثراً بخفض إنتاج النفط الذي تنفذه عدة دول من المنطقة ضمن اتفاق لدول من تحالف «أوبك+».

كما توقع أن يسجل متوسط معدل التضخم في الإمارات 3.3 في المئة في العام المالي الجاري 2023، قبل أن يتراجع إلى 2.4 في المئة العام المالي المقبل، و2.1 في المئة في العام المالي 2025، في الوقت الذي قد يرتفع متوسط معدل التضخم في السعودية خلال العام المالي 2023 إلى 2.3 في المئة قبل أن يتراجع إلى 1.2 في المئة خلال العام المالي 2024.

(أنطونيو يارن وكريستينا شفيدا-CNN)