يبدو أن بنك الاحتياطي الفيدرالي على وشك الدخول إلى مرحلة جديدة في حربه ضد التضخم، لكن الأمر هذه المرة لن يقتصر على رفع أسعار الفائدة الذي يُعد الأداة الأشهر لدى البنك لمكافحة الضغوط التضخمية، إذ سيوظف البنك هذه المرة سلاحاً إضافياً لإخضاع التضخم قيد السيطرة، وذلك عبر ميزانيته العمومية الهائلة التي تُقدر بتريليونات الدولارات.

فعلى مدار عام ونصف العام تقريباً، رفع البنك أسعار الفائدة إلى أعلى مستوى لها منذ 22 عاماً لإبقاء التضخم تحت السيطرة وتحسين سوق العمل وهما مهمتان أساسيتان ضمن المسؤوليات الرئيسية للبنك بحسب ما هو منصوص عليه بالكونغرس.

وكان البنك قد آثر تثبيت سعر الفائدة في اجتماعه الأخير في سبتمبر أيلول لتظل عند مستويات يوليو تموز الماضي بين 5.25 و5.5 في المئة.

لكن ما قد لا يدركه الكثيرون هو أن رفع الفائدة ليس السلاح الوحيد المتاح لدى البنك المركزي الأميركي لمكافحة التضخم، إذ يدير البنك ميزانية عمومية تبلغ قيمتها عدة تريليونات من الدولارات، وتأتي في صورة سندات حكومية يمكن استخدامها للتحكم في حجم السيولة النقدية في النظام المالي وكمحفزات لتنشيط أو إبطاء النمو الاقتصادي.

أسعار الفائدة الأميركية

من الواضح أن بنك الاحتياطي الفيدرالي قد انتهى من سلسلة تشديد السياسات النقدية مع احتمال رفع أسعار الفائدة مرة أخرى أخيرة في ديسمبر كانون الأول، لكن مع استمرار قوة النمو الاقتصادي والضعف النسبي لسوق العمل، لا تزال معدلات التضخم أعلى من هدف الـ2 في المئة الذي يحدده البنك.

وكان مؤشر أسعار المستهلكين لشهر سبتمبر أيلول قد استقر عند 3.7 في المئة على أساس سنوي، فيما تراجع مؤشر أسعار المستهلكين الأساسي إلى 4.1 في المئة.

وهذا يعني أن بنك الاحتياطي الفيدرالي لديه المزيد من العمل للقيام به لتهدئة الاقتصاد، وسيستمر في استخدام الميزانية العمومية لإبطاء النمو، في الوقت الذي ستقوم فيه أسعار الفائدة المرتفعة بالدور الأكبر في احتواء التضخم.

الميزانية العمومية للاحتياطي الفيدرالي

يحتفظ بنك الاحتياطي الفيدرالي بالعديد من أنواع الأصول مثل سندات الخزانة، والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري، والقروض المقدمة للبنوك، لكنه في الوقت نفسه يحمل التزامات مالية مثل العملات واحتياطيات البنوك واتفاقيات إعادة شراء الاحتياطيات (وهي عقود قصيرة الأجل لبيع الأوراق المالية ثم شرائها لاحقاً بسعر أعلى).

كلما أراد البنك تحفيز الاقتصاد، فإنه يعمل على توسيع حيازته من الأوراق المالية وهي استراتيجية تعرف باسم (التيسير الكمي)، والتي لجأ إليها لمساعدة الاقتصاد على التعافي من الركود العظيم العقد الماضي عندما قام بتوسيع محفظة أصوله بشكل كبير من أقل من تريليون دولار في عام 2007 إلى أكثر من تريليوني دولار في عام 2009.

وفي بداية جائحة (كوفيد-19)، عزّز البنك محفظة أصوله بشكل حاد، إذ اشترى ما يصل إلى 1.5 تريليون دولار من سندات الخزانة في مارس آذار وأبريل نيسان 2020 لتحقيق المزيد من الاستقرار للنظام المالي وتخفيف آثار عمليات الإغلاق على الاقتصاد، واستمر في الاستحواذ على مئات المليارات من الأوراق المالية الحكومية طوال عام 2020.

أما في الوقت الحالي، فيقوم البنك بالعكس تماماً في إطار جهوده لتهدئة نمو أكبر اقتصادات العالم.

فمنذ أكثر من عام، قلص البنك ميزانيته العمومية بشكل مطرد للمساعدة في تهدئة الاقتصاد؛ وهو ما يعرف باسم “التشديد الكمي” أو “تقليص الميزانية العمومية”.

وفي هذا السياق، قالت لايل برينارد، نائبة رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي السابقة، لصحيفة (وول ستريت غورنال) في عام 2022 قبل إقرار الميزانية العمومية مباشرة وتعيينها نائبة للرئيس “ستلعب الميزانية العمومية دوراً مهماً في إزالة تيسيرات السياسة النقدية”.

تبلغ الميزانية العمومية لبنك الاحتياطي الفيدرالي حالياً نحو 7.9 تريليون دولار، فيما يمثل انخفاضاً بأكثر من تريليون دولار مقارنة بذروتها البالغة تسعة تريليونات دولار في أوائل عام 2022 قبل بدء جولة التقليص مباشرة.

ما الخطوة التالية؟

يتوقع الاقتصاديون في شركة الخدمات المالية (ويلز فارغو) أن يؤدي الركود الاقتصادي في وقت ما من العام المقبل إلى دفع بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى التوقف عن سياسة التشديد الكمي في أكتوبر تشرين الأول 2024، ما يعني استقرار الميزانية العمومية عند نحو 7.2 تريليون دولار.

وكتبوا في مذكرة تحليلية حديثة “من وجهة نظرنا، فإنه من غير المرجح أن يستمر الاحتياطي الفيدرالي في تشديد السياسة النقدية السلبية من خلال التشديد الكمي خلال فترة النمو السلبية للناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع البطالة، وخفض التمويلات الفيدرالية”.

وكان رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، قد توقع في مؤتمر صحفي في يوليو تموز الماضي أن تستمر سياسة التشديد الكمي حتى أثناء خفض أسعار الفائدة.

يقول الاقتصاديون في (ويلز فارغو) إن ذلك سيسمح للجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة بإعادة الميزانية العمومية إلى “مرحلة التوازن”.

العلاقة بين التضخم ورفع أسعار الفائدة

يقرر بنك الاحتياطي الفيدرالي إما رفع سعر الفائدة أو خفضه أو إبقاءه دون تغيير في كل اجتماع من اجتماعات اللجنة الفيدرالية الثمانية المقررة كل عام، ما يؤثر على أسعار الفائدة قصيرة الأجل في جميع مناحي الاقتصاد.

وكلما ارتفع التضخم، يستجيب البنك برفع سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية، ما يدفع الفائدة على منتجات القروض إلى أن تحذو حذوها، وبذلك، يتراجع الطلب على القروض نتيجة تكلفة الإقراض المرتفعة، ما يؤدي لتهدئة النمو الاقتصادي وإبطاء زيادات الأسعار واستقرار معدلات التضخم.

على الجانب الآخر، عندما يؤدي ضعف الاقتصاد إلى ارتفاع معدلات البطالة، يستجيب البنك بخفض سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية ليصبح الإقراض أرخص، ما يدعم النمو الاقتصادي.

في بعض الأحيان يترك البنك أسعار الفائدة دون تغيير إذا كان المسؤولون بحاجة إلى مزيد من البيانات حول أداء الاقتصاد أو إذا كانوا يعتقدون أن النمو يسير في الاتجاه الصحيح.

إن التحكم بسعر الفائدة على الأموال الفيدرالية، وهو سعر الفائدة الذي تفرضه البنوك التجارية على بعضها البعض عند إقراض احتياطيات البنك الزائدة، هو الطريقة الأكثر شهرة التي يتبعها بنك الاحتياطي الفيدرالي لإحداث تأثير مباشر على الاقتصاد، إذ إنه يرتبط بشكل وثيق بقدرة الشركات على الوصول إلى القروض.