حين تصبح دولة كبرى يقطنها أكثر من 46 مليون نسمة، بقبضة رجل واحد، أو حين تخشى رئيسة دولة من السفر على متن طائرتها الرئاسية خوفاً من احتجازها بطاقمها في الخارج، وهو تماماً ما حدث عام 2013 مع رئيسة الأرجنتين كريستينا فرنانديز دي كيرشنر، لا بد من أن يخطر في الأذهان اسم واحد، وهو المستثمر بول سينغر.
منهم من يلقبه بـ«النسر الرأسمالي» ومنهم من يقول بأنه «مصاص الدماء»، أما أولئك الذين يحاولون تلطيف الأمور، فيقولون بأنه «رائد في مجال شراء السندات السيادية بسعر رخيص، ثم ملاحقة البلدان للديون غير المسددة ومقاضاتها في محاكم الكون».
أما بول سينغر شخصياً فلا يرى عيباً في الأمر، وفي رد على أنه يزيد الدول الفقيرة فقراً، يقول «إن الفقراء في البلدان النامية فقراء لأن الأنظمة السياسية والاقتصادية في بلادهم قد خذلتهم.. كل دول العالم لديها فقراء، حتى الولايات المتحدة يوجد بها فقراء».
كيف تستدين الدول؟
قبل الحديث عن بول سينغر وصندوق التحوط الخاص به «إليوت مانجمنت»، سنشرح لكم باختصار كيف تستدين الدول، وما عواقب تخلفها عن السداد.
تخيلوا ببساطة لو أن أي شخص منا مدين لبنك ما، وحين استحقت دفعاته، لم يكن لديه ما يكفي لتسديد التزاماته، ما يفعله البنك كخطوة أولى هو إنذاره، وفرض بعض الفوائد الإضافية عليه، بعد ذلك يبدأ بحجز ممتلكاته.
أما في حالة الدول، فالحكومات غالباً ما تتبع طريقتين للاستدانة، الأولى عبر قرض مباشر من دولة أو جهة مثل صندوق النقد أو البنك الدولي، والثاني عبر بيع سندات في أسواق المال الدولية بهدف جمع أموال من المستثمرين.
ما هي عواقب التخلف عن السداد؟
قد تواجه البلدان التي تتخلف عن سداد ديونها السيادية صعوبة في الاقتراض مرة أخرى، ولكي تجد من يقرضها بعد ذلك، ستضطر لدفع أسعار فائدة عالية للغاية إذا أتيحت لها الفرصة.
كما يمكن أن يؤدي التخلف عن سداد الديون السيادية أيضاً إلى عواقب اقتصادية وخيمة أبرزها انخفاض الناتج المحلي واستنزاف الخزينة وسط ارتفاع تكلفة الديون بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الفقر والتضخم وهجرة الاستثمارات.
أما الأصعب، فهو استحواذ المستثمرين على أصول للدولة، في حال فشل عقد اتفاق بين الدولة والمستثمرين على سعر معين لهذه الديون.
وهنا يأتي دور بول سينغر، وصندوق التحوط الخاص به «إليوت مانجمنت».
قناص الدول المتخلفة عن سداد ديونها
غالباً ما تلجأ الدول المتعثرة لبيع سنداتها بخصوم تغري المستثمرين الطامعين بأرباح يحصّلونها بفروقات السعر عند استحقاق السند، وهذا بالتحديد ما كان يبتغيه سينغر.
في إحدى أشهر الحالات، بدأت المعركة بين الدائنين والأرجنتين عام 2001 عندما تخلفت الدولة اللاتينية عن سداد ديون بقيمة 80 مليار دولار.
وبعد التشاور للوصول إلى اتفاق مع الدائنين وموافقة 93 في المئة منهم على الانسحاب عبر تلقّي ما نسبته 30 في المئة فقط من مستحقاتهم، رفض الصفقة 7 في المئة من الدائنين بما فيهم صندوق إليوت للتحوط التابع لسينغر، وطالبوا بكامل مستحقاتهم.
في ذلك الوقت، اشترى سينغر سندات أرجنتينية بقيمة اسمية قدرها 617 مليون دولار، بنحو 117 مليون دولار فقط، أي بخصم يصل إلى 81 في المئة، وفقاً لتحليل أجرته جامعة كولومبيا.
وبعد معركة استمرت 15 عاماً، كسب سينغر المعركة ضد الأرجنتين وأجبرها على دفع قيمة السندات الكاملة مع الفوائد المتراكمة، وقدرها 2.4 مليار دولار.
مصادرة سفينة ليبرتاد البحرية الأرجنتينية في غانا
ربما تكون حادثة الاستيلاء على سفينة ليبرتاد التابعة للبحرية الأرجنتينية، وإرغام ضباطها على تركها، هو المخطط الأكثر جرأة لشركة إليوت كابيتال التابعة لبول سينغر، في عام 2012، عندما دخلت سفينة البحرية الأرجنتينية إلى ميناء تيما في غانا وعلى متنها أكثر من 250 من أفراد الطاقم، حيث أجبر محامي سينغر الحكومة الغانية على حجزها بحكم تخلف الأرجنتين عن سداد مستحقاته.
الأرجنتين لم تكن وحدها في المعارك القضائية بوجه بول سينغر، فالبيرو والكونغو كانتا أيضاً من أبرز ضحاياه.
في أوائل التسعينيات، بدأ سينغر في استخدام استراتيجية شراء الديون السيادية من الدول التي هي في حالة تخلف عن السداد أو تقترب من السداد، وفي عام 1996، اشترى إليوت ديون البيرو المتعثرة مقابل 11.4 مليون دولار، واستطاع قبيل فرار رئيس البيرو السابق ألبرتو فوجيموري من البلاد بسبب انتهاكات حقوق الإنسان والفساد، مصادرة طائرته ثم أجبره على دفع 58 مليون دولار من الخزانة مقابل السماح له بالمغادرة، وهذا ما حصل بالفعل.
أما الكونغو، فقد حصّل منها أكثر من 100 مليون دولار من الفوائد بعد صفقة مع الحكومة لم يتم الكشف عن تفاصيلها، لتسوية ديون بقيمة 30 مليون دولار مستحقة على الكونغو عامي 2002 و2003.
بول سينغر.. بداياته
عكس الغالبية العظمى من المستثمرين، لم يكن بول سينغر من أولئك الذين يحللون مسارات الأسهم أو يلاحظون بيانات الشركات الكبرى لكي يحققوا أرباحهم من خلال تحقيقها أرباحها.
فكرته الأساسية، كانت مبنية على استغلال نقاط الضعف، أو ببساطة، كما لو أنه ينتهز الفرصة للعثور على شخص ما بحاجة ماسة إلى المال، لكي يفرض عليه شروطه مقابل إقراضه ما يريد.
وهنا، عوضاً عن رصد الأشخاص، كان سينغر يرصد الشركات المتعثرة قبل عام 1995، لينقض عليها مثلما فعل مع شركة الطيران الأميركية «ترانس ورلد إيرلاينز» والبنك الشهير «ليمان براذرز».
وبقصة تتشابه مع أحداث فيلم «ذا وولف أوف وول ستريت» بقي على هذا المنوال إلى أن تعرف على جاي نيومان، الرجل الذي أصبح فيما بعد ذراعه اليمنى وتحديداً عام 1995، وهو الرجل الذي أرشد سينغر إلى فكرة الانقضاض على الدول المتعثرة، عوضاً عن الشركات المتعثرة، لأن الأمر قد يبدو أسهل، كيف؟
غالباً ما تلجأ الدول إلى سوق الديون الدولية لطرح سندات تجمع عبرها الأموال مقابل سدادها في وقتها المستحق لاحقاً، وهذه الأمور تحدث بشكل علني وواضح، هنا يأتي دور بول سينغر، وصندوقه «إليوت مانجمنت»، الذي عبره كانت تتم معظم الصفقات.
واليوم، أي بعد نحو 47 عاماً على تأسيسه برأسمال لا يتجاوز 1.3 مليون دولار، أصبحت قيمة الأصول المدارة لصندوق التحوط الخاص بسينغر «إليوت مانجمنت» تناهز 65.5 مليار دولار، حسبما يشير الصندوق على موقعه الرسمي.
أما ثروة سينغر الخاصة، فتقدرها مجلة فوربس الأميركية بنحو 6.1 مليار دولار، ومن أشهر صفقاته الاستحواذ على نادي كرة القدم إيه سي ميلان في عام 2018 ثم بيعه مقابل 1.2 مليار دولار عام 2022.
هل يمكن للدول أن تحمي نفسها من أمثال بول سينغر؟
وفقاً لصندوق النقد الدولي، كانت هناك 70 دولة مهددة بشدة جراء عبء الديون وسط مخاطر التخلف عن السداد في عام 2023، أبرزها زامبيا، وبيلاروسيا، ولبنان، وسورينام، وغانا، وسريلانكا.
هذا الكم الكبير من الدول التي تتوق للحصول على قروض مالية لمساعدتها في تأمين السيولة، يجعل من شبه المستحيل اعتماد إجراءات لحماية الدول من مثل هذا النوع من المستثمرين، حسبما قال مازن سلهب، كبير استراتيجيي الأسواق في شركة «بي دي سويس»، في حديث مع «CNN الاقتصادية» مضيفاً أن الإجراء الوحيد الذي من شأنه حماية الدولة المستدينة هو اعتماد اقتصاد مغلق ومنع التداول بالسندات الحكومية، وهو أمر غير قابل للتطبيق منطقياً.
كما يذكر أن الأرجنتين، وقبل أن تقع في مصيدة بول سينغر، حاولت تفادي الاستدانة من أي كيان تابع له، خصوصاً بعد ما حصل مع البيرو والكونغو، لكن بول سينغر استخدم دهاءه للالتفاف على الأرجنتينيين، واشترى ديونها عبر شركة تابعة له اسمها «إن إم إل كابيتال»، وهو ما زاد النقمة عليه بين الأرجنتينيين، أي ببساطة، حتى عملية تحديد الجهات المَدينة قد تبدو في حالات كثيرة صعبة جداً لتقفي أثرها.
أخيراً، الأمر الوحيد الذي قد يساعد في لجم جشع المستثمرين أمثال سينغر، هو قانون «تشامبرتي» – الذي تم تطبيقه بالفعل حينما رفع سينغر دعوى ضد البيرو في المحكمة الفيدرالية بمانهاتن في ولاية نيويورك، والذي يمنع شراء الديون بهدف المضاربة بها أو استغلال حاجة الدول في المحاكم العليا.
وهنا، نجحت هيئة الدفاع الموكلة عن حكومة البيرو، حينذاك، في إقناع القاضي الأميركي «مؤقتاً» بأن صندوق «إليوت مانجمينت» الذي يديره سينغر لم يشترِ هذه السندات بغرض الاستثمار، وكانت هناك نية لدى إدارته برفع دعاوى قضائية ضد بلدهم بغرض إجبارهم على الدفع أو إعلان الإفلاس، لكنه بعد خسارته الدعوى، قدم استئنافاً للحكم وعاد فربحها مرة أخرى.