أنفقت الولايات المتحدة الأميركية نحو 6.4 تريليون دولار خلال عقدين من الزمان في حروبها ضد الإرهاب في أفغانستان والعراق، وفقاً لتقديرات وزارة الدفاع الأميركية.
منها مئات المليارات من الدولارات تم توجيهها لإعادة بناء قدرات الجيشين العراقي والأفغاني، فكانت النتيجة النهائية هي سيطرة طالبان على مقاليد الحكم في كابول، بينما احتاجت العراق إلى دعم خارجي لمواجهة العمليات العسكرية للجماعات المسلحة، ووفق بيانات الأمم المتحدة بلغ إنفاق الجيش السوري السنوي 2.5 مليار دولار قبل اندلاع احتجاجات عام 2011، التي انتهت برحيل بشار الأسد عن مقعد الحكم فور تخلي حلفائه عنه.
لا تقتصر ظاهرة الانهيار السريع للجيوش على منطقة الشرق الأوسط أو دول العالم الثالث فقط، فقد شهدت أوروبا الشرقية الظاهرة نفسها، وفق دراسة «انهيار الجيوش» الصادرة عن جامعة ديوك الأميركية، والمثال الأهم هو الانهيار السريع للجيش اليوغوسلافي مرتين، في الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا، وفي تسعينيات القرن الماضي أمام حركات الاستقلال التي أنهت وجود دولة يوغوسلافيا.
لماذا تنهار الجيوش رغم التمويل السخي؟
في نهاية أغسطس الماضي أصدرت كلية الحرب التابعة للجيش الأميركي دراسة بعنوان «لماذا انهار الجيشان الأفغاني والعراقي: وجهة نظر الحلفاء»، وترى الدراسة أن هناك أسباباً واضحة (غير عسكرية) لهذا الانهيار، أهمها أن التمويل تم توجيهه بشكل خاطئ.
تقول الدراسة إن أفغانستان والعراق هما أهم مثالين على محاولة الغرب إعادة بناء الجيوش في خضم عمليات مكافحة التمرد، وكلتا التجربتين فشلتا، لأن طريقة الولايات المتحدة في إعداد هذه الجيوش جعلتها جيوشاً غير قابلة للانتصار.
يرجع هذا الفشل، وفق الدراسة، إلى عدة أسباب، أولها اقتصادية- ثقافية، وهي محاولة اتباع نموذج (شمول ودمج) ثقافي مغاير لتراث البلدين، حيث تم تجنيد النساء في أفغانستان، كما تم اتباع منظومة التجنيد التطوعي وليس المنظومة التجنيد الإجباري المتبعة في البلدين، والذي يشمل كل المواطنين دون تمييز طائفي أو قبلي، وهو الأمر الذي حدث في سوريا أيضاً، ما أدى إلى حرمان أعداد ضخمة من المواطنين من الالتحاق بالجيش والحصول على رواتبه المرتفعة نسبياً، حتى لو لم يكونوا ضمن الجماعات المتمردة.
على العكس يلتزم الإنفاق العسكري في الدول القوية عسكرياً بدمج كل الفئات وتمكينها، بل إن التجنيد في حد ذاته يعتبر رافعة اجتماعية في كثير من دول العالم.
وترى الدراسة أن الإنفاق العسكري لم يلتزم بمعايير الرقابة والحوكمة المتبعة في الجيوش النظامية، ما تسبب في استشراء الفساد وسرقة المعدات والأسلحة، والأسوأ تغليب الانتماء القبلي أو الشخصي، والبعد تماماً عن الاحترافية.
وعلى سبيل المثال أدى بيع بعض القيادات لإمدادات الجيش الوطني الأفغاني إلى تثبيط عزيمة المقاتلين، والنتيجة أن الجنود أنفسهم باعوا معداتهم العسكرية.
كما أن عمليات التدريب والتسليح كانت معتمدة على تجارب الدول الأجنبية (الولايات المتحدة، وإيران، وروسيا، وغيرها) وليس التجربة المحلية، ما خلق منظومة دفاعية غير قادرة على صد المتمردين باستدامة.
الأمر الأسوأ أن التمويل ركز على التسليح وأجور الجنود، وليس الاستثمار في تصنيع الأسلحة والمعدات، حتى البسيطة منها، أو تحسين الطرق والنقل واللوجستيات، أو بناء المؤسسات العسكرية والمدنية، كما تأخرت أهمية إعداد القادة المحليين لشغل الوظائف الاستخباراتية والاستشارية والتنسيقية، على الرغم من أن إعداد وتمويل هذه الجيوش استمر لسنوات وعقود.
ولم تقم أي دولة داعمة بتوجيه التمويل لتمكين هيئات التعليم والرعاية الصحية وغيرها من الهيئات المدنية من أداء دورها الداعم للقوات المسلحة في أفغانستان والعراق وسوريا وغيرها، وهذه الهيئات هي عصب القوات المسلحة في كل دول العالم الأقوى عسكرياً، بل لم يتم توجيه دعم يذكر لقوات الشرطة المحلية، ما حمّل القوات المسلحة دوراً أمنياً وعسكرياً مركباً.
وعانت كل القوات النظامية المهزومة من ارتفاع معدلات الأمية وضعف الصحة العامة للجنود، وفق الدراسة، حتى إنه تم تعيين أشخاص أميين مراراً وتكراراً في مناصب عليا اعتماداً على المحسوبية دون الكفاءة.
كما لم يتم توجيه التمويل لتحسين انتشار القوات المسلحة أو دمج القوات المتمردة، ما أدى إلى حرب طويلة لا نهاية لها إلّا الهزيمة.
تخلص الدراسة إلى أن التدخل العسكري الأجنبي في كثير من الأحيان يهتم بالتكتيكات العسكرية، ولا يستطيع تحقيق انتصار استراتيجي، لأنه ببساطة يعتمد على تجربته الناجحة في بلاده، دون استشارة الفريق المهزوم داخلياً، والذي من المؤكد أنه أكثر خبرة بتعقيدات المشهد الداخلي.