يمر الاقتصاد العالمي بفترات حرجة منذ أزمة الرهن العقاري الأميركية في عام 2008، حدث لم يتنبأ به أحد أعاق نمو الاقتصاد العالمي لسنوات وتساقطت معه العديد من اقتصادات الدول القريبة والبعيدة من الأزمة.
ما حدث كان مجرد إشارة إلى وصول النظام الاقتصادي العالمي لمراحل متقدمة من انفتاح الأسواق على بعضها البعض بمبدأ السوق الواحدة نحو التقادم بشكل أكبر لتحقيق التكامل الاقتصادي، هذا التقدم التقني واللوجستي كما أنه عامل رئيسي في النمو الاقتصادي وتبادل المنافع بين أسواق مختلفة، إلا أن له آثاراً سلبية فتاكة في حال الأزمات.
ما هو اللايقين؟ وماهي مستوياته؟ وكيف يمكن التعامل معها؟
اللايقين هو حالة تكون فيها النتائج، أو الاحتمالات، أو الأحداث المستقبلية مجهولة أو غير متوقعة بخلاف المخاطر، حيث تكون الاحتمالات معروفة وقابلة للقياس، فإن عدم اليقين يعني عدم وجود معلومات كافية للتنبؤ بثقة بالأحداث المستقبلية أو اتخاذ القرارات المثلى.
في الاقتصاد اللايقين هو الحالة التي يفتقر صناع القرار إلى المعرفة الواضحة حول الحالة الحالية أو مستقبل المتغيرات الاقتصادية مثل النمو، أو التضخم، أو التجارة أو الاستثمار.
عدم اليقين ليس متساوياً في كل الأحوال ويمكن تلخيص أنواع اللايقين الاقتصادي إلى أربعة مستويات:
الأول، مستقبل واضح بما فيه الكفاية: حيث يكون توقع واحد دقيقاً بما يكفي لوضع الاستراتيجية.
الثاني، أكثر من مستقل بديل كافي: هو عندما تكون خيارات بديلة كافية لتحديد المستقبل وتقييم الخيارات.
الثالث، أكثر من مستقبل بلا سيناريوهات طبيعية: في هذه الحالة يجب أن يصبح تطوير الاستراتيجية أكثر تعقيداً.
الرابع، الغموض الكامل: عندما لا يوجد أساس بتاتاً للتنبؤ بالمستقبل.
الاستشراف المستقبلي والذكاء الاستباقي أمران بالغا الأهمية لضمان امتلاك الفرق العليا القدرة على التفكير في تصور سيناريوهات جديدة متعددة لالتقاط أي إشارات لحالات غير محتملة من اللايقين إلى يقين تام.
كوفيد 19 تزيد تحصين الاقتصادات نحو اللايقين الاقتصادي
لم تكن الجائحة سيناريو متوقعاً لأي من الاقتصاديين بالشكل والكيفية والكم في الخسائر الهائلة في النظام الاقتصادي وسلاسل الإنتاج العالمية، لم يكن التنبؤ بالجائحة أمراً في معادلات المتنبئين والمستشرفين ولذلك كانت آثاره فتاكة على معظم دول العالم.
تفاوتت الأضرار جراء الجائحة، ولكن أصيب قطاع التجزئة والترفيه والسياحة بشلل تام، وجراء ذلك فقد العديد من العاملين في القطاع وظائفهم كما فقدت الشركات في القطاع جزءاً كبيراً من قيمتها السوقية، وعلى مستوى الدول كانت الاقتصادات النامية، التي تمثل المؤسسات الصغيرة حجماً كبيراً من التركيبة الاقتصادية، كالدول اللاتينية ودول الآسيان الصاعدة مثل الفلبين، أشد معاناة من ظروف الجائحة، كما أن الدول التي تعتمد على السياحة مثل اليونان وأسبانيا عانت بشدة حيث ينخرط العديد من السكان في شركات السياحة والضيافة.
في الجانب الآخر تضاعفت قيمة العديد من شركات الأدوية العالمية والشركات المطورة للقاحات، كما أن القطاع الصحي بالمجمل كان بالغ الأهمية في هذه المرحلة، ما ضاعف أرباح القطاع عالمياً، كما أن شركات التقنية العملاقة والشركات اللوجستية وكذلك شركات التجارة الإلكترونية استفادت بشكل واضح من القيود الوبائية وطورت من منتجاتها بالاستفادة من الظروف، ما ضاعف عوائدها وزاد من قيمتها، كما أن الدول التي تشكل فيها المؤسسات الكبيرة والقطاع العام حجماً أكبر في نسبة الوظائف كانت أقل تأثراً من تداعيات الجائحة.
الأوضاع الجيوسياسية تدفع الدول لإعادة النظر في خطط التحوط
المحركات الاقتصادية سريعة ومتغيرة وفي فترة قصيرة جداً تحولت من العوامل الوبائية إلى العوامل الجيوسياسية، وفي كل أحوالها تسقط معها اقتصادات دول وتصمد فيها اقتصادات دول أخرى، تلك الدول التي استشرفت التحديات واللايقين في بناء استراتيجياتها الاقتصادية بتوسيع دائرة الافتراضات للوصول للمجهول المحتمل.
روسيا نموذج واضح للتحوط الاقتصادي في مواجهة اللايقين الأميركي والأوروبي، فبالرغم من الحصار اللامتوقع الذي تواجهه منذ اندلاع الحرب، فإن قيمة عملتها الروبل صمدت، وكان ذلك بما تملكه من أدوات تحوط بسبب الأسس الاقتصادية التي بُني عليها الاقتصاد الروسي.
لا يمكن قراءة السياسة ببساطة من مجرد توقعات، بل الأمر مشروط بكيفية تطور الأحداث، وفي الظروف الحالية يزداد الأمر تعقيداً بسبب أهمية التفاعل المشترك بين الافتراضات التي تقوم عليها التوقعات، وتزداد التحديات بشكل أكبر في تلك الاقتصادات التي تنكشف مباشرة للأحداث العالمية بسبب عدم امتلاكها لأدوات التحوط والتنوع الاقتصادي المبنية على سيناريوهات تواجه اللايقين بتحليلات عميقة لمواجهة المجهول.
الاتحاد الأوروبي كان منكشفاً تماماً جراء الازمة ووقع في فخ الولايات المتحدة، حيث لم تستشرف دول الاتحاد اللايقين الأميركي في توريد الغاز البديل للغاز الروسي، ما دفع بها للبحث لإعادة النظر في خططها التحوطية مع الولايات المتحدة، حيث إن المجهول القادم قد يكون أكثر تدميراً لدول الاتحاد ما لم تبنِ استراتيجية واضحة تستشرف التحديات وتضع اعتباراً واضحاً لـ"اللايقين" في استراتيجياتها.
اللايقين الأميركي مع عودة ترامب يربك الاقتصاد العالمي ويعيد تشكيل التحالفات
سياسات ترامب الحمائية دفعت الحلفاء لصفوف الأعداء، وفي طريقها لإعادة تشكيل التحالفات العالمية لمواجهة اللايقين الأميركي المبرر بنهج «لنجعل أميركا عظيمة مجدداً»، في الوقت الذي يمثل انضمام المملكة العربية السعودية لمجموعة بريكس إعادة لتعريف موازين القوى الاقتصادية العالمية، وستجعل من المجموعة ذات أهمية توازي أهمية مجموعة السبع وهو ما تسعى الإدارة الأميركية لعرقلته.
في خضم هذه الفوضى، تُصوّر أوروبا نفسها على أنها "موثوقة، وقابلة للتنبؤ، ومنفتحة على التجارة العادلة"، وقّع الاتحاد الأوروبي اتفاقيات تجارية مع المكسيك وتشيلي وميركوسور -وهو تكتل من أميركا الجنوبية يضم البرازيل والأرجنتين- ويهدف إلى إبرام اتفاقية مع الهند بحلول نهاية العام.
كما أنه قد يدفع ترامب أوروبا أيضاً إلى أحضان الصين، حيث في وقت ما هذا العام اتفق الجانبان على استئناف المفاوضات بعد أن فرض الاتحاد الأوروبي رسوماً جمركية أعلى على السيارات الكهربائية الصينية الصنع العام الماضي، مع استعداد أوروبا لإعادة النظر في التسعير، كما تُجري الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، أول حوار اقتصادي لها مع كوريا الجنوبية واليابان منذ خمس سنوات، وتُنفذ "حملة ترويجية" أوسع نطاقاً تهدف إلى تحويل مسار الصادرات بعيداً عن الولايات المتحدة، تُروّج الصين لنفسها كبطلة للتجارة العالمية، دون حالة عدم اليقين المُقلقة.
ختاماً:
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.