«الصناعة» بوصلة الحكومات في طريق الاستقلالية السياسية والتجارية

الصناعة بين عمالقة العالم والاقتصادات العربية.... من «مصنع العالم» إلى «مصنع المستقبل» (شترستوك)
اصنع في الإمارات
الصناعة بين عمالقة العالم والاقتصادات العربية.... من «مصنع العالم» إلى «مصنع المستقبل» (شترستوك)

في زمن تُرسم فيه خرائط القوة الاقتصادية لا بالحسابات المالية فقط، بل بطبيعة ما تنتجه الدول، تعود الصناعة لتتصدّر واجهة المشهد العالمي.

لم تعد «الصناعة» مجرد مصطلح كلاسيكي في كتب الاقتصاد، بل باتت عنواناً لمعركة كبرى بين الدول الكبرى والدول الناشئة، كلٌّ يسعى لتأمين مكانه في «عالم ما بعد النفط» و«ما بعد العولمة».

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

خلال السنوات الأخيرة، أعادت دول كبرى مثل الصين وأميركا والهند ضبط بوصلتها الصناعية في مواجهة تغيرات عالمية حادة.. من ضمن هذه التغيرات اضطرابات سلاسل التوريد، وتصاعد السياسات الحمائية، وسباق الاستقلال التكنولوجي.

في المقابل، تسعى اقتصادات عربية مثل السعودية والإمارات وقطر ومصر لاقتناص فرص التحوّل، من خلال استراتيجيات وطنية تسعى لربط التصنيع المحلي برهانات المستقبل كالذكاء الاصطناعي، والطاقة النظيفة، والأمن الغذائي.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

كم يشكل قطاع الصناعة من الناتج الإجمالي للاقتصادات؟

لا تزال الصين تتربع على عرش التصنيع العالمي، بحصة تلامس 40 في المئة من ناتجها المحلي، مستفيدة من بنية تحتية هائلة وقاعدة تصنيعية تشمل كل شيء من الصلب إلى الرقائق الذكية.. لكن اللافت أن بكين لم تكتفِ بلقب «مصنع العالم»، بل تسعى عبر خطة «صنع في الصين 2025» إلى قيادة الثورة الصناعية المقبلة في مجالات مثل السيارات الكهربائية وتكنولوجيا الطاقة المتجددة.. التحدي؟ التوازن بين التحول الرقمي والمحافظة على مكانتها في الصناعات التقليدية.

الهند التي باتت في السنوات الأخيرة محط أنظار المستثمرين، شكّلت الصناعة فيها نحو 25 في المئة من ناتجها المحلي عام 2023.. وعلى الرغم من تحديات البنية التحتية وارتفاع كلفة الطاقة، فإن مبادرات مثل اصنع في الهند «Make in India» أطلقت موجة تطوير في قطاعات منسوجات، مواد بناء، وإلكترونيات دقيقة؛ الهند تراهن على قاعدتها السكانية الشابة، لتُحوّلها إلى قوى عاملة قادرة على تصنيع المستقبل.

والمفاجأة أن الصناعة الأميركية لم تعد تتصدر نسبياً، إذ تبلغ حصتها نحو 17–18 في المئة من الناتج، إلا أن واشنطن أعادت مؤخراً ضخ الروح في قطاعها الصناعي عبر تشريعات ضخمة، مثل قانون «شرائح السيليكون» لإعادة توطين صناعات حساسة، وعلى رأسها أشباه الموصلات، كما تضخ المليارات في الطاقة النظيفة والبنية التحتية، وتحاول أميركا استعادة ريادتها الصناعية من بوابة التكنولوجيا والبيئة.

في الخليج، تتجاوز مساهمة الصناعة 50 في المئة في اقتصادات مثل الإمارات (51 في المئة) وقطر (65 في المئة)، مدفوعة بالنفط والغاز.

كما أطلقت الإمارات مبادرة «اصنع في الإمارات» وهي مبادرة حكومية رسمية في مارس آذار 2021، وتهدف إلى تعزيز القطاع الصناعي الوطني وجذب الاستثمارات في مجالات التصنيع والتكنولوجيا المتقدمة.

تأتي هذه المبادرة ضمن الاستراتيجية الوطنية للصناعة والتكنولوجيا المتقدمة المعروفة باسم «مشروع 300 مليار»، والتي تسعى إلى رفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 300 مليار درهم بحلول عام 2031 لكن اللافت اليوم هو التحوّل التدريجي نحو التصنيع التكنولوجي.

الإمارات تسعى لبناء بنية صناعية قائمة على الذكاء الاصطناعي والطاقة الشمسية، مع تعزيز الصناعات التحويلية، وقطر تُوسّع قدراتها في البتروكيماويات والغاز، لكنها بدأت ترسم ملامح تحول بعيد المدى عبر مشاريع مرتبطة بالتكنولوجيا والبنية التحتية الرقمية.

وتستثمر السعودية، ضمن رؤية 2030، في الصناعات العسكرية، والإلكترونيات، والهيدروجين الأخضر.

أما عن الصناعة المصرية، التي تشكّل نحو 33 في المئة من الناتج المحلي، فتقف عند مفترق طرق.. ورغم الاستثمارات في البتروكيماويات والحديد والغذاء، لا تزال الصناعة بحاجة إلى زخم أكبر في التكنولوجيا، سلاسل القيمة، وتمويل المجمعات الصناعية.

تسعى الإصلاحات الأخيرة لتقليل الاعتماد على استيراد السلع الوسيطة، وتعزيز التصنيع المحلي عبر اتفاقات تجارية وخطط تحفيزية، إلّا أن التحديات لا تزال قائمة، خصوصاً على مستوى التمويل والبنية التشريعية.

رغم تفوّق الدول العربية صناعياً من حيث نسب المساهمة في الناتج (بفضل الطاقة)، فإن نوعية الإنتاج تظل تقليدية ومحدودة القيمة المضافة مقارنةً بالاقتصادات الكبرى.. فالصين، على سبيل المثال، تصدر منتجات تقنية عالية تفوق صادرات الخليج الصناعي مجتمعة؛ فالفجوة ليست فقط في الآلات، بل في المهارات، والتدريب، وسلاسل القيمة العالمية.

مؤشر مديري المشتريات.. نبض الصناعة العالمية يتفاوت

في مارس آذار 2025، أظهرت بيانات مؤشر مديري المشتريات (PMI) تبايناً واضحاً بين الاقتصادات المتقدمة والناشئة.

سجلت الصين (50.5) والولايات المتحدة (50.2) قراءات تفوق عتبة الـ50، ما يعكس توسعاً طفيفاً في النشاط الصناعي.

على النقيض، واصلت ألمانيا (48.3) واليابان (48.5) الانكماش وسط تباطؤ الطلب العالمي.

في الأسواق الناشئة، برزت الهند بقوة عند 58.1، مدفوعةً بزيادة الطلب المحلي والسياسات الصناعية المحفزة.

أظهرت إندونيسيا والبرازيل وفيتنام نمواً مستقراً، بينما شهدت تركيا والمكسيك تراجعاً دون مستوى الـ50، ما يعكس ضغوطات نقدية واضطراباً في سلاسل الإمداد.

عربياً، سجلت السعودية (58.1) أعلى قراءة على الإطلاق، تليها الإمارات (54) وقطر (52)، وهو ما يعكس حيوية قطاعات التصنيع والبناء والخدمات المرتبطة بمشاريع التحول الاقتصادي.

في المقابل، بقيت مصر والكويت دون الـ50 (49.2) ما يشير إلى تراجع في الطلب الصناعي وسط تحديات تمويلية وتقلبات سعر الصرف، بينما سجل لبنان (47.6) أداءً ضعيفاً يعكس أزمة اقتصادية ممتدة.

يُستخدم هذا المؤشر الاقتصادي لقياس أداء النشاط الصناعي والخدمي في الاقتصاد، ويستند إلى استطلاعات شهرية لمديري المشتريات في الشركات. يُعَدّ المؤشر أعلى من 50 نقطة دليلاً على التوسع، وأقل من 50 يشير إلى الانكماش.

دروس صناعية من تجارب الكبار.. ماذا تحتاج المنطقة العربية؟

تثبت التجارب الدولية أن الاقتصادات التي تتجه نحو تصنيع المنتجات عالية القيمة، بدلاً من تصدير المواد الخام، تحقق تنمية مستدامة وأقل هشاشة تجاه الصدمات.. على دول الخليج ومصر أن تعزز الصناعات التحويلية، لا سيما في القطاعات المرتبطة بسلاسل التوريد العالمية، مثل الإلكترونيات وقطع الغيار، مع ربطها بالبنية التحتية الذكية.

جاء التميز الصيني والأميركي نتيجة الاستثمار المكثف في التعليم الفني والبحث والتطوير.. لدى المنطقة فرصة هائلة إن ركزت على STEM، وأنشأت مراكز بحوث صناعية وشجعت شركات التكنولوجيا على توطين صناعتها، مع تبني نماذج مثل «الصناعة 4.0» وتحويل المدن الصناعية إلى بيئات ذكية.

تحتاج المنطقة إلى إصلاحات تشريعية وتنظيمية تُسهّل الاستثمار الصناعي. شملت توصيات الملتقى الصناعي العالمي في السعودية (2024) الحوافز الضريبية، وشراكات القطاعين العام والخاص، وتمويل مشاريع البنية الصناعية الكبرى، بالإضافة إلى حماية الملكية الفكرية لجذب شركات عالمية.

يمثل غياب سوق صناعية إقليمية عائقاً أمام التصنيع الكبير، والمطلوب هو تنسيق عربي لتبادل الإنتاج والتكامل، مع الاستفادة من شراكات دولية مثل UNIDO لنقل التكنولوجيا والدخول في سلاسل القيمة العالمية، تماماً كما فعلت فيتنام والهند.

في الختام، ربما يكون السؤال الأكبر اليوم: من سيقود الموجة الصناعية المقبلة؟ هل هي الاقتصادات التقليدية المتجددة مثل الصين وأميركا؟ أم الاقتصادات الساعية للتحول السريع كالسعودية ومصر؟

ما يبدو واضحاً هو أن الصناعة لم تعد خياراً اقتصادياً، بل ضرورة سيادية، وضمانة للنمو المستدام، وورقة نفوذ في الاقتصاد العالمي الجديد.

**ملحوظات.. هذا التحليل مبني على بيانات من البنك الدولي، وشعبة الإحصاءات التابعة للأمم المتحدةUNSD، وقاعدة بيانات منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية UNIDO، ومؤشر مديري المشتريات (PMI) لشهر مارس آذار 2025، والصادرة عن مؤسسات دولية مثل أس آند بي غلوبال S&P Global، والمواقع الرسمية لسياسات الدول، بالإضافة إلى تحليلات اقتصادية معمّقة من CNN Business Arabic.

تم تقسيم الدول إلى ثلاث مجموعات رئيسية وفقاً لطبيعة قطاعها الصناعي، ومستوى القيمة المضافة، والسياسات الصناعية المتبعة: الاقتصادات الصناعية المتقدمة (الصين، الولايات المتحدة، اليابان، ألمانيا، كوريا الجنوبية)، والاقتصادات الناشئة الساعية للتصنيع المتقدم (الهند، إندونيسيا، البرازيل، فيتنام، تركيا، المكسيك)، والاقتصادات العربية بين التنوع والطاقة (السعودية، الإمارات، قطر، مصر، تونس، الأردن، الكويت، العراق، لبنان، المغرب).

يساعد هذا النوع من التحليل صنّاع القرار، والمستثمرين، وروّاد الأعمال، والباحثين الاقتصاديين في فهم اتجاهات النشاط الصناعي، وتقييم فرص الاستثمار، ورسم السياسات الاقتصادية الأكثر استجابة للواقع المحلي والدولي.