شهد الربع الأول من عام 2025 تحولات كبيرة في التجارة العالمية، فقد برزت علامات على تعافٍ متباين بين الاقتصادات الكبرى.
وظهرت ملامح جديدة للسيطرة على السوق الرقمية التي يزداد تركيزها واستحواذها، في معركة توازن القوى التي قد تعيد تشكيل ملامح الاقتصاد العالمي.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });
بالنظر إلى الأداء فهو متفاوت في تجارة السلع بين الدول الكبرى، فبينما شهدت الولايات المتحدة نمواً قوياً في الواردات، وهو ما يعكس تسارع الشحنات قبل ارتفاع الرسوم الجمركية المرتقبة، أظهرت أوروبا تفوقها في تصدير السلع، الأمر الذي أدى إلى انتعاش في الصادرات الأوروبية وتراجع نسبي في بعض الاقتصادات مثل الهند وكوريا الجنوبية.
فقد انخفضت صادرات الأخيرة رغم أدائها الثابت على المدى السنوي، كما أظهرت بيانات التجارة أن الصين عانت من تراجع ملحوظ في الواردات.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });
أداء التجارة في السلع خلال الربع الأول 2025
سجلت الولايات المتحدة قفزة استثنائية في وارداتها من السلع بنسبة 14 في المئة فصلياً و12 في المئة سنوياً، نتيجة سباق الشركات الأميركية لاستيراد السلع قبل بدء تنفيذ رسوم جمركية جديدة.
أعطى هذا الاندفاع الاستباقي دفعة مؤقتة للأرقام الأميركية لكنه لا يعكس بالضرورة طلباً حقيقياً طويل الأجل.
في الوقت نفسه، استفادت دول مثل الاتحاد الأوروبي من هذا السباق الأميركي، فقد ارتفعت صادراتها بنسبة 6 في المئة فصلياً، وهو أعلى معدل بين كل الاقتصادات الكبرى، ما يعكس قوة صادراتها الصناعية وقدرتها على تلبية الاندفاع الأميركي نحو الاستيراد.
أما الهند وكوريا الجنوبية، فقد شهدتا انكماشاً واضحاً في صادرات السلع خلال الربع، رغم حفاظ كوريا على أداء قوي سنوياً.
بالنسبة إلى الصين، جاءت بياناتها متباينة؛ فقد تراجعت وارداتها على المستويين الفصلي والسنوي، ما يشير إلى ضعف الطلب المحلي، بينما حافظت صادراتها على بعض الزخم السنوي، بزيادة قدرها 6 في المئة.
أما روسيا، فقد واصلت انكماشها التجاري، مع تراجع مزدوج في كل من الصادرات والواردات، وهو ما يعكس استمرار تأثير العقوبات والعزلة الاقتصادية.
وفي قطاع الخدمات، كانت الصورة مختلفة، برزت الهند وجنوب إفريقيا كأبرز الاقتصادات أداءً في الصادرات الفصلية، في حين سجلت الصين واليابان والاتحاد الأوروبي تراجعاً ملحوظاً.
المفارقة أن الصين رغم التراجع الفصلي في صادرات الخدمات، سجّلت نمواً سنوياً قوياً بنسبة 18 في المئة، ما يعكس ربما عقوداً طويلة الأمد أو تعافياً بطيئاً في قطاعي السياحة والتكنولوجيا.
اللافت أن التجارة في الخدمات، بخلاف السلع، لا تزال تحافظ على زخم مزدوج على مدار السنة، إذ تسجّل العديد من الاقتصادات نمواً سنوياً مزدوج الرقم، ما يعكس تحولاً هيكلياً في طبيعة التجارة العالمية نحو الخدمات الرقمية، والسياحة، والاستشارات، والخدمات المالية.
من يعتمد على من؟
باتت بعض الدول تُعمّق علاقاتها التجارية مع شركاء استراتيجيين، في حين تسعى أخرى إلى فك هذا الارتباط، اللافت أن هذه التحولات لا تعكس فقط خيارات تجارية، بل هي نتيجة مباشرة لتصاعد التوترات الجيوسياسية والحروب التجارية، وخصوصاً بين الولايات المتحدة والصين، وكذلك بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.
على جانب الدول التي زاد اعتمادها التجاري، تظهر تايوان كأبرز مثال، إذ ارتفع اعتمادها على الولايات المتحدة بنسبة 2.8 في المئة خلال عام، في ظل تنامي التعاون في مجالات التكنولوجيا والرقائق الإلكترونية.
وشهدت ماليزيا وفيتنام والمملكة المتحدة أيضاً زيادات ملموسة في اعتمادها التجاري على الولايات المتحدة، ما يعكس تحولاً استراتيجياً نحو «شراكات بديلة» بعيداً عن الصين.
كما أن البرازيل عززت روابطها التجارية ليس فقط مع أميركا، بل أيضاً مع الاتحاد الأوروبي، رغم تراجع النمو في بعض أسواق التصدير الأساسية.
في المقابل، نجد أن اقتصادات بارزة مثل المملكة المتحدة وأستراليا والنرويج تسجل تراجعاً واضحاً في اعتمادها التجاري على شركاء تقليديين.
فقد انخفض اعتماد المملكة المتحدة على الاتحاد الأوروبي بنسبة 3.1 في المئة، كما تقلص ارتباط أستراليا بالصين بالنسبة نفسها تقريباً، نتيجة التوترات السياسية والتجارية بين البلدين، ما أدى إلى تراجع كبير في حجم التبادل التجاري، خاصة في قطاعي المعادن والطاقة.
ويبدو أن سياسة «الاعتماد التجاري على الدول الصديقة» (Friend-shoring) تحل تدريجياً محل العولمة التقليدية، فقد تفضل الدول التعامل مع شركاء سياسيين موثوقين حتى لو على حساب الكفاءة أو الكلفة.
في المجمل، توضح هذه التحركات أن العالم يدخل مرحلة جديدة من «إعادة تموضع تجاري»، إذ تسعى الدول إلى إعادة تشكيل سلاسل التوريد وفقاً للاعتبارات الأمنية والسياسية، لا الاقتصادية فقط.
المنافسة واللوائح التنظيمية في السوق الرقمية
على صعيد سوق الرقمية، فقد برزت تصاعد الإجراءات التنظيمية والتشريعية عالمياً، مع خطوات جريئة من قبل حكومات تدفع باتجاه فرض قوانين أكثر صرامة على كبار عمالقة التكنولوجيا.
فشهدت أوروبا من خلال قانون الأسواق الرقمية تحركات متسارعة للحد من نفوذ الشركات المهيمنة مثل ألفابت وفيسبوك، فيما تتبع بلدان مثل أستراليا والبرازيل وبريطانيا مسار قوانين مماثلة.
وهذا يعكس حرصاً دولياً على حماية المنافسة وتفتيت الاحتكار الرقمي الذي يهدد بتقييد الابتكار وتضييق الخيارات أمام المستهلكين خاصة في الدول النامية.
وفي الوقت نفسه، ظهرت مؤشرات على ترسيخ سيطرة الشركات الرقمية الكبرى، إذ تشير الأرقام إلى أن احتكار السوق يتعزز، مع تركز أكثر من نصف مبيعات أكبر خمس شركات عبر العالم، وزيادة غير مسبوقة في حصص الأصول، ما يُهدد بتوسيع الفجوة الاقتصادية بين الدول المتقدمة والنامية.
باختصار، رغم أن أرقام التجارة العالمية لا تزال تعكس نمواً نسبياً في بعض الأسواق، فإن التوترات السياسية، والرسوم الجمركية، والتحولات في أنماط الاعتماد التجاري، جميعها تنذر بمزيد من التقلبات في النصف الثاني من 2025.
لذلك، ستبقى مرونة سلاسل التوريد، واستقرار السياسات التجارية، وحجم التعاون بين الشركاء الاستراتيجيين، هي العوامل الحاسمة في تحديد مستقبل التجارة العالمية خلال السنوات المقبلة.