لطالما كانت الطاقة النووية مثيرة للجدل في ألمانيا، لكن يوم السبت، بعد إغلاق محطات الطاقة النووية الثلاث الأخيرة أبوابها، كُتبت نهاية الحقبة النووية في البلاد بعدما امتدت لأكثر من ستة عقود.
تتباين الآراء حول هذا الشأن، فهناك من يريد إنهاء الاعتماد على تكنولوجيا اعتبروها خطيرة وغير مستدامة، وتبتعد عن الأهداف المتعلقة بتسريع الطاقة المتجددة.
وهناك من يعتبر أن إغلاق المحطات النووية «إمسلاند»، و«إيزار 2»، و«نيكارويستيم»، قراراً غير صائب، خاصة أنه يغلق مصدراً موثوقاً للطاقة منخفضة الكربون، في الوقت الذي يسعى فيه العالم إلى إجراء تخفيضات جذرية للحد من التلوث، والتحكم في حرارة الكوكب.
من جهتها، صمدت الحكومة الألمانية أمام هذه الادعاءات معتبرة أن الطاقة النووية ليست صديقة للبيئة، على الرغم من الدعوات الأخيرة لإبقاء المحطات موجودة على أرض الواقع في ظل وجود أزمة الطاقة.
تقول الوزيرة الاتحادية الألمانية للبيئة وحماية المستهلك، ستيفي ليمكي، لشبكة «CNN»، إن الطاقة النووية ليست مستدامة، ونحن على وشك الدخول في حقبة جديدة من إنتاج الطاقة.
خطة بدأت منذ عقدين
يمثل إغلاق المحطات الثلاث تتويجاً لخطة بدأ العمل بها منذ أكثر من 20 عاماً، وتمتد جذورها إلى ما قبل ذلك.
في السبعينيات من القرن الماضي، ظهرت حركة قوية مناهضة للأسلحة النووية في ألمانيا، إذ اجتمعت مجموعات للاحتجاج على محطات الطاقة الجديدة، بسبب مخاوف بشأن المخاطر التي تشكلها.
في عام 2000، تعهدت الحكومة الألمانية بالتخلص التدريجي من الطاقة النووية والبدء في إغلاق المحطات، ولكن عندما وصلت حكومة جديدة إلى السلطة في عام 2009، بدا الأمر -لفترة وجيزة- كأن الطاقة النووية ستُستخدم في مساعدة البلاد من أجل الانتقال إلى الطاقة المتجددة.
لكن الأمور انقلبت رأساً على عقب، بعدما تسبب زلزال وتسونامي في ذوبان ثلاثة مفاعلات في محطة «فوكوشيما دايتشي» لتوليد الطاقة.
تقول أستاذة البيئة وسياسة المناخ في الجامعة التقنية في ميونيخ، ميراندا شريورز، لشبكة «CNN»، إن التأكيدات بعدم إمكانية حدوث كارثة نووية واسعة النطاق، غير جديرة بالثقة.
بعد ثلاثة أيام من كارثة «فوكوشيما»، ألقت المستشارة آنذاك أنجيلا ميركل -عالمة الفيزياء المؤيدة للطاقة النووية- خطاباً وصفت ما حدث بأنه كارثة لا يمكن تصورها لليابان، ونقطة تحول للعالم، وأعلنت أن ألمانيا ستسرّع من عملية التخلص التدريجي النووي، مع إغلاق المحطات القديمة بأسرع ما يمكن.
لكن الأحداث العالمية مستمرة، فقد رسم الغزو الروسي لأوكرانيا منعطفاً جديداً للحكومة الأمانية تجاه قرارها بشأن الطاقة النووية.
خوفاً من أمن الطاقة بدون الغاز الروسي، أجلت الحكومة الألمانية خطتها لإغلاق المصانع الثلاثة الأخيرة في ديسمبر كانون الأول 2022. وحث البعض على إعادة التفكير بالأمر.
لكن الحكومة رفضت، وأعلنت موافقتها على الاستمرار في العمل حتى 15 أبريل نيسان فقط.
طاقة بديلة
تقول أستاذة سياسة المناخ والطاقة في جامعة كاليفورنيا، ليا ستوكس، لشبكة «CNN» إننا نحتاج إلى الحفاظ على تشغيل المفاعلات النووية الحالية والآمنة مع تكثيف مصادر الطاقة المتجددة في الوقت نفسه بأسرع ما يمكن.
وأضافت أن الخطر الكبير هو أن الوقود الأحفوري يملأ فجوة الطاقة التي خلفتها الطاقة النووية، فوفقاً لبحث نُشر العام الماضي، عوضت ألمانيا التخفيضات في الطاقة النووية منذ «فوكوشيما» من خلال الزيادات في الفحم.
تخطط ألمانيا لاستبدال ما يقرب من 6 في المئة من الكهرباء المولدة من المحطات النووية الثلاث بمصادر متجددة، وأيضاً بمصادر من الغاز والفحم.
يأتي أكثر من 30 في المئة من طاقة ألمانيا من الفحم -وهو أسوأ أنواع الوقود الأحفوري- وقد اتخذت الحكومة قرارات مثيرة للجدل بالتحول إلى الفحم للمساعدة في أمن الطاقة.
تؤكد ستوكس «أن بناء قدرة جديدة للفحم هو عكس ما نحتاج إليه»، موضحة أن الوقود الأحفوري لا يمثل مشكلة مناخية فحسب، بل يمثل خطراً على الصحة؛ فتلوث الهواء من الوقود الأحفوري مسؤول عن 8.7 مليون حالة وفاة سنوياً، وفقاً لتحليل حديث.
على جانب آخر، قالت الخبيرة الاقتصادية البارزة في ألمانيا، فيرونيكا غريم، لشبكة «CNN» إن استمرار تشغيل محطات الطاقة النووية لفترة أطول كان من شأنه أن يمنح ألمانيا مزيداً من الوقت من انتشار الكهرباء على نطاق واسع، خاصة أن نمو الطاقة المتجددة ما زال بطيئاً.
لكن مؤيدي الإغلاق النووي يجادلون بأنه سيعجل بنهاية الوقود الأحفوري.
تعهدت ألمانيا بإغلاق آخر محطة للطاقة تعمل بالفحم في موعد أقصاه عام 2038، مع حلول 2030 موعد نهائي في بعض المناطق، كما تهدف إلى أن تمثل الكهرباء نحو 80 في المئة من مصادر الطاقة المتجددة بحلول نهاية العقد الجاري.
قال رئيس الاتحاد الألماني للطاقة المتجددة، سيمون بيتر، لشبكة «CNN» إن التخلص التدريجي من الطاقة النووية في ألمانيا حدث تاريخي وخطوة طال انتظارها فيما يتعلق بالطاقة.
وقالت شريورز «إنه لا ينبغي التغاضي عن تأثيرات الطاقة النووية»، لافتة إلى التلوث الكربوني الناجم عن تعدين اليورانيوم، إضافة إلى مخاطر المضاعفات الصحية لعمال المناجم.
مشكلة مليون سنة
الآن يجب على ألمانيا التعامل مع النفايات المشعة المميتة عالية المستوى، والتي يمكن أن تظل خطرة لمئات الآلاف من السنين.
في الوقت الحالي، يُحتفظ بالنفايات النووية في التخزين المؤقت بجوار المحطات النووية التي أُغلقت، لكن البحث ما زال جارياً لإيجاد موقع دائم يمكن تخزين النفايات فيه بأمان لمليون سنة.
يجب أن يكون الموقع عميقاً، وممتداً لمئات الأمتار تحت الأرض، وأن يكون مستقراً جيولوجياً مع عدم وجود مخاطر الزلازل أو علامات لأنهار جوفية.
من المحتمل أن تكون العملية محفوفة بالمخاطر ومعقدة وطويلة، وقد تستمر لأكثر من 100 عام، وتقدر الشركة الفيدرالية للتخلص من النفايات المشعة، إمكانية استمرار البحث عن مكان للفترة بين عامي 2046 و2064.
(لورا باديسون ونادين شميدت وإنكي كابيلر – CNN)