هل تؤثر التجارة العالمية على تراجع الأمن المائي في عالم الجنوب؟ هذا ما يوضحه تقرير نشره موقع المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس).

ففي الوقت الذي يتزايد فيه الحديث عن نقص إمدادات المياه في العالم كأحد تداعيات التغير المناخي، هناك جانب لا يلفت اهتمام الكثيرين رغم تأثيراته السلبية على الأمن المائي في الدول النامية، وهذا الجانب يتعلق بتأثيرات التجارة العالمية على تراجع الأمن المائي في عالم الجنوب، من خلال استهلاك الصناعات التصديرية في الدول النامية للمياه من ناحية وتأثيراتها السلبية على تلوث إمدادات المياه فيها.

وفي تقرير (تشاتام هاوس) قالت جلادا لان، كبيرة الباحثين في مركز البيئة والمجتمع بالمعهد، وأنوم فاران مديرة مشروع في مركز البيئة والمجتمع «إن تجارة وإنتاج المنسوجات في العالم تسهم بما بين 6 و8 في المئة من إجمالي الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحراري، وتنتج 92 مليون طن من المخلفات».

وأضافتا «كما هو الحال بالنسبة للصناعات التصديرية الأخرى مثل الغذاء والمعادن، فإن صناعة الملابس والأحذية ومستلزمات الموضة لها تأثيرها الكبير على إمدادات المياه، خاصة في المناطق التي تعاني من ندرة موارد المياه وتداعيات التغير المناخي».

التلوث الممنهج

وبحسب التقديرات فإن إنتاج سروال من الجينز يستهلك ما يصل إلى 8000 لتر مياه وإنتاج حقيبة جلد يستهلك أكثر من 17 ألف لتر مياه، ولو كان يعتمد على مياه من المصادر المتجددة والمياه المعالجة المعاد تدويرها، فإن هذه المنتجات قد تكون مستدامة على الأقل بالنسبة للمياه، لكن الشركات الغربية العاملة في هذا المجال، ومن أجل تقليل نفقاتها وزيادة أرباحها تتجه إلى العمل في الدول ذات العمالة الرخيصة مع غياب القواعد البيئية، فتكون النتيجة هي التلوث الممنهج واستنزاف موارد المياه في تلك الدول.

والحقيقة أن هذه الأضرار لا تنعكس على أسعار منتجات هذه الشركات، في حين أن هناك من يدفع الثمن، وفي حين تساعد تجارة المنتجات كثيفة استهلاك المياه في تحقيق النمو الاقتصادي، فإن تكلفة التخلص من التلوث الناتج عنها مرتفعة للغاية، وتنفق الصين مليارات الدولارات سنوياً من أجل تطهير أنهارها وبحيراتها التي كان 70 في المئة منها غير صالحة للاستخدامات البشرية في أوائل القرن الحالي.

وفي بنجلاديش التي تصدر 70 في المئة من إنتاجها من الملابس والمنسوجات إلى الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، يؤثر التلوث الشديد لأنهارها على الصحة العامة والقدرة على إنتاج الغذاء في المزارع المحيطة بها، كما تستنفد مخزون المياه الجوفية، ويقدر استهلاك قطاع المنسوجات في بنجلاديش من المياه بنحو 1500 مليون متر مكعب (بما يعادل 400 حمام سباحة أوليمبي) سنوياً.

وأشارت إحدى الدراسات إلى أن أكثر من نصف البصمة المائية لواردات الاتحاد الأوروبي تأتي من مناطق تواجه نقصاً ما بين معتدل وحاد للمياه، وفي ظل التغير المناخي أصبح التنافس بين الاحتياجات المحلية واحتياجات التجارة الخارجية للمياه في هذه المناطق أزمة سياسية بشكل متزايد.

ومن العراق إلى بنما أصبحت الاحتجاجات العامة على تخصيص المياه في مناطق الصناعات التصديرية، سبباً للتغيير السياسي والاضطرابات الشعبية. وحتى الآن لا توجد قواعد ولا تنظيمات تجارية للحد من تلويث المياه أو انعدام العدالة في معالجتها.

ورغم غياب ملف المياه بشكل واضح عمَّا يُعرف باسم «ميثاق مجموعة السبع للموضة» للدول الصناعية السبع الكبرى، ظهرت عدة مبادرات تركز على تحسين إدارة المياه في صناعة المنسوجات، تشمل هذه المبادرات «سجل المنسوجات المفتوح» و«تحالف المنسوجات المستدامة» واتفاقية طوعية منبثقة عن مؤسسة الاعتماد العالمي المسؤول للمنتجات (دبليو.آر.أيه.بي) في بريطانيا التي تستهدف خفض استهلاك المياه في الصناعة بنسبة 30 في المئة بحلول 2030، مثل هذه المبادرات تشجع على رصد وتسجيل تأثير الصناعة على المياه وتقليله، لكن المشاركة فيها اختيارية، ومع ذلك فإن الأمر أصبح يتطلب أن تكون العناية الواجبة بالمخاطر البيئية والمناخية ملزمة قانونياً.

وبدءاً من 2025، سيلزم الاتحاد الأوروبي الشركات الكبرى، بتسجيل وإعلان تأثيرات أنشطتها الخارجية وسلاسل إمدادها في مجالات الغذاء والأسمدة والمنسوجات والهيدروجين الأخضر على إمدادات المياه المحلية في الدول التي تعمل بها، ومن المتحمل أن يمرر الاتحاد الأوروبي بدءاً من 2027 قانوناً يستهدف إلزام الشركات بمعالجة الآثار السلبية لأنشطتها على موارد المياه.

النموذج المغربي

على سبيل المثال تقدم المغرب نموذجاً للمساعدة التي يمكن أن تقدمها التشريعات الوطنية والمساعدات في الدول المستوردة، في تحسين الاستهلاك الصناعي للمياه في الدولة المصدرة، فالمغرب تمتلك بعضاً من أعلى صادرات الأنسجة قيمة في قارة إفريقيا، حيث تصدر أكثر من 80 في المئة من إنتاجها من المنسوجات إلى أوروبا، خاصة إلى فرنسا وإسبانيا، كما أن الكثير من الشركات العالمية العاملة في هذه المجال تمتلك مصانع عديدة في المغرب، وبعد معاناة المغرب من التلوث الشديد المرتبط بصناعة الملابس والجلود، تبنت الحكومة المغربية في 2017 معايير لجودة المياه، وفرضت حدوداً على المخلفات السائلة للصناعات بما في ذلك المنسوجات، وأجبرت هذه القواعد الشركات على تقليل التلوث، وأدت في حالة واحدة على الأقل إلى قيام أحد المصانع بإقامة محطة خاصة به لمعالجة مياه الصرف، بدعم من بنك الاستثمار الأوروبي، ورغم هذه الخطوات الإيجابية، واجهت المغرب ست سنوات متتالية من الجفاف والتعرض الشديد لمخاطر المناخ، ما أدى إلى الرقابة الشديدة على استخدام المياه في الأنشطة التصديرية، وتحقيق التوازن بينها وبين الاحتياجات المحلية.

ورغم ذلك جلادا لان وأنوم فاران تريان أن العالم يحتاج إلى تحرك أكثر شمولاً من جانب الموردين والمشترين لتغيير الطريقة التي يتم بها تقييم وتنظيم المياه في الدول النامية المصنعة، ويمكن أن يلعب «إعلان غلاسكو للبصمة المائية العادلة» الصادر عن قمة المناخ العالمية «كوب 26» في اسكتلندا والذي يستهدف وجود حوار وتبادل للمعلومات بين الشركاء التجاريين حول هذه القضايا الحساسة دوراً مهماً في هذا السياق.

ودون معالجة هذه القضية، سيصبح استنزاف الموارد المائية في الدول النامية من أجل الصناعات التصديرية مصدراً ليس فقط للأضرار الصحية والبيئية في الدول النامية، لكن أيضاً للاضطرابات السياسية والاقتصادية فيها.