أصبح التراب طعام المضطرين من سكان بعض مناطق السودان بعد أن عزّ الغذاء كما هو الحال في مخيم اللعيت للنازحين.
فالمخيم الفقير الكائن في شمال دارفور يشهد تدفقاً جديداً للنازحين مع اتساع رقعة القتال في الحرب الأهلية المستمرة منذ نحو عام في السودان لتشمل مساحات واسعة من البلاد، ووسط حملة تطهير عرقي في دارفور.
وقرنق أشين أكوك هو واحد من آلاف الوافدين الجدد إلى المنطقة، وقال أكوك إنه وزوجته وأطفالهما الخمسة تركوا منزلهم في منطقة كردفان بالجنوب.
ووصل أكوك (41 عاماً) إلى اللعيت في ديسمبر كانون الأول، لكنه بلا عمل ولا يستطيع إعالة أسرته، وفي بعض الأحيان، يمضون يومين أو ثلاثة أيام دون طعام، وقال أكوك إنه عندما يحدث ذلك، فإنه ينظر بلا حول ولا قوة إلى زوجته وأطفاله وهم يحفرون حفراً في الأرض ويدخلون أيديهم فيها ويلتقطون بعض التراب ويصنعون منه كرات ويضعونها في أفواههم ويبتلعونها بالماء.
وقال «أظل أقول لهم ألا يفعلوا ذلك.. لكنه الجوع.. ليس بوسعي أن أفعل أي شيء».
يقول فيصل محمد الذي يعمل في منظمة صحاري للتنمية، وهي منظمة محلية للإغاثة، إنه لم يصدق أن الناس يأكلون التراب حتى شاهد بنفسه ذلك في عدة مخيمات. وقال «لما تكون البطن خاوية الناس تحاول تملاها بأي شيء».
وقال كثيرون من السكان لرويترز إن الأطفال الذين أكلوا التربة أصابهم القيء والإسهال.
وقبل الحرب، كان سكان المخيم يعملون في الحقول ويتقاضون أجورهم في صورة نسبة من المحصول بلغت نحو 20 بالمئة، وكانوا يعتمدون بشدة أيضاً على المساعدات المقدمة من برنامج الأغذية العالمي.
المجاعة تكشر عن أنيابها في السودان
ويتفشى الجوع وتكشر المجاعة عن أنيابها في السودان، وسط غياب أي مؤشرات على تراجع حدة الحرب التي اندلعت في أبريل نيسان من العام الماضي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية.
وانهار قطاع الزراعة في ظل سرقة قوات الدعم السريع المحاصيل من المزارعين واضطرارهم للفرار من أراضيهم بسبب أعمال العنف بحسب رويترز.
وصار الجوع سبباً آخر للنزوح، وليس القتال وحده، إذ يهجر البعض منازلهم بحثاً عن الطعام.
وقالت آنيت هوفمان التي أعدت تقريراً لمؤسسة كليجندال البحثية التي مقرها هولندا عن أزمة الغذاء في السودان «تسببت الحرب في أكبر أزمة جوع في العالم.. من المرجح أن تحدث مجاعة لم نشهدها منذ عقود».
وقالت وزارة الخارجية السودانية، إنها ملتزمة بتسهيل إيصال المساعدات، واتهمت قوات الدعم السريع بنهب وعرقلة المساعدات.
وقال الفريق إبراهيم جابر مساعد القائد العام للقوات المسلحة إن السودان لن يسقط في براثن الجوع ولديه «أكثر مما يحتاج»، وقال بعض سكان الخرطوم إن الجيش قدم في بعض الأحيان كميات محدودة من المساعدات الغذائية وسط القتال.
على جانب آخر نفت قوات الدعم السريع ارتكاب أعمال نهب، وقالت إنها ستحاسب أي عناصر مارقة في صفوفها، متهمة الجيش بتعطيل إيصال المساعدات.
ومن أجل البقاء على قيد الحياة يلجأ الناس في أنحاء السودان إلى تدابير يائسة، ففي غرب دارفور، لم يجد المزارعون ما يسد رمقهم سوى البذور التي كانوا قد اشتروها لغرسها، وفي منطقة كردفان، باع البعض أثاثهم وملابسهم للحصول على نقود لشراء الطعام، وفي الخرطوم، لم يجد سكان محاصرون في منازلهم خياراً سوى قطع أوراق الأشجار وغليها وأكلها.
ويشير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، وهو أداة عالمية لرصد الجوع، إلى أن ما يقرب من 18 مليون شخص في السودان، أي أكثر من ثلث سكان البلاد البالغ عددهم 49 مليوناً، يواجهون «مستويات عالية من الانعدام الحاد للأمن الغذائي»، وتشير تقديراته أيضاً إلى أن من بين هذا العدد، هناك ما يقرب من خمسة ملايين على بعد خطوة واحدة من المجاعة.
وقال في مارس آذار إن هناك حاجة إلى إجراء فوري «للحيلولة دون تزايد أعداد الوفيات والانهيار التام لسبل العيش وتجنب أزمة جوع كارثية في السودان»، وأضاف أنه لم يتمكن من تحديث التوقعات التي قدمها في ديسمبر كانون الأول بسبب صعوبة الحصول على البيانات من مناطق الصراع وانقطاع خدمات الإنترنت والهواتف عن معظم أنحاء السودان.
ووضع تقرير كليجندال ثلاثة تصورات للسودان، وأكثر هذه التصورات تفاؤلاً أن تعصف المجاعة بستة في المئة من السكان، وفي أسوأ الحالات، سيعاني 40 بالمئة من المجاعة خلال الجفاف بين مواسم الحصاد، والذي يبدأ في مايو أيار ويستمر حتى سبتمبر أيلول.
وفي بعض الأماكن، يموت الناس بالفعل، وخلصت تقديرات منظمة أطباء بلا حدود إلى وفاة طفل واحد في المتوسط كل ساعتين في مخيم زمزم الضخم للنازحين في شمال دارفور نتيجة المرض وسوء التغذية.
قلة الاهتمام
وقالت تشاسا لطيفي كبيرة مستشاري برامج الصحة العالمية في منظمة الإغاثة بروجكت هوب «أكبر تحدٍ يواجهنا هو التمويل وقلة الاهتمام بالسودان.. هناك اهتمام كبير بكل من أوكرانيا وغزة لدرجة أنه لا توجد فرصة لدى أي أحد للتفكير في السودان أو حتى الاستماع لما يحدث هناك».
ولم تفلح الضغوط الدولية على طرفي الصراع حتى الآن في حل أزمة إيصال المساعدات.
جوع في الخرطوم
لا يقتصر الحرمان على الفقراء، وحتى قبل الحرب، كان السودان يواجه فقراً متفشياً وجوعاً واسع النطاق، وتقول الأمم المتحدة إن السودان صار يعاني من أكبر أزمة نزوح، إذ إن واحداً من كل ثمانية نازحين في العالم سوداني، وتسبب القتال في انهيار الاقتصاد، ما أثر على الجميع دون تمييز.
وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن ما يقرب من نصف السكان يعانون من البطالة، وانهار النظام المصرفي الرسمي، ما حال دون إمكانية وصول المواطنين إلى ودائعهم، وأدى انقطاع خدمات الاتصالات إلى حرمان الناس من شريان الحياة الرئيسي المتمثل في تحويل الأموال عبر الإنترنت، وأشار وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم إلى انكماش الاقتصاد 40 بالمئة بسبب الحرب.
وفي أحياء الطبقة المتوسطة بالخرطوم، صارت الحياة معركة يومية يسودها الجوع والخوف، إذ يجد الناس أنفسهم محاصرين بين الجيش وقوات الدعم السريع.
وبالنسبة للينا محمد حسن وأسرتها، فيتسلل وحش المجاعة إليهم ببطء.
وبعد اندلاع الحرب العام الماضي، سقطت قذائف مورتر حول منزلها في حي بانت بأم درمان، وقالت لينا (32 عاماً) إنه كانت هناك أيام يبدأ فيها القصف في الخامسة صباحاً ويستمر طوال اليوم، ويجعل ذلك الخروج للبحث عن الطعام محفوفاً بالمخاطر.
واضطر ذلك لينا وعائلتها المكونة من 11 فرداً للتحول إلى وجبات تتكون في الأساس من العدس والأرز، وقالت «حتى هذا كان من الصعب الحصول عليه لأن الأسعار صارت خمسة أضعاف الطبيعي».
شح المساعدات
ولم تُحدث طرود الأغذية التي أسقطها الجيش جواً على الحي فرقاً يذكر، وقالت لينا إن الطرود تحطمت عندما اصطدمت بالأرض واختلط الطعام بالتراب، وبمرور الوقت، أصبح من المستحيل الحصول على أي شيء، لا مال ولا طعام.
وقالت إن الجنود كانوا يتقاسمون طعامهم في بعض الأحيان مع أطفال عائلتها، وبدأت هي والبالغون الآخرون في عدم تناول بعض الوجبات، أحيانا ليومين متواصلين، حتى يتمكن الصغار من تناول الطعام، وصارت أوراق الأشجار المغلية في الماء مع بعض البهارات جزءاً من نظامهم الغذائي.
ولا يزال الناس محاصرين في أكثر من 12 منطقة بالخرطوم، وأفادت هيئة عالمية معنية بانعدام الأمن الغذائي، وهي شبكة أنظمة الإنذار المبكر من المجاعة، في مارس آذار بأن هناك مناطق في العاصمة عرضة «لخطر المجاعة» إذ إن طرفي الصراع «يستخدمان تكتيكات شبيهة بالحصار ليقطع كل منهما الإمدادات عن خصمه».
وقالت الصيدلانية فاطمة صالح إنها تقف لساعات في طابور للحصول على ثلاث غَرَفات من العدس أو الفول لعائلتها المكونة من أربعة أفراد منهم والدتها المريضة.
وحتى المصنع الوحيد في السودان الذي ينتج أغذية علاجية للأطفال الذين يعانون من سوء التغذية أتى عليه القتال أيضاً، وقالت ندى يعقوب نائبة مدير شركة (ساميل) وابنة صاحب المصنع إن المصنع احترق بعدما أصابته قذيفة في مايو أيار الماضي.
وتوقف منذ ذلك الحين إنتاج عجينة الفول السوداني لمعالجة الهزال عند الأطفال، وتقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) إن ساميل كان ينتج 60 بالمئة من هذا الغذاء العلاجي للأطفال في السودان.
وقالت ندى يعقوب «إنها خسارة فادحة» في وقت يحوم فيه شبح المجاعة.
ويقول عمال إغاثة إنه منذ ديسمبر كانون الأول، لم تفلح المساعدات القادمة من الشرق في الوصول إلى جزء كبير من دارفور أو منطقة كردفان أو الخرطوم، ولم تدخل إلا بضع عشرات من الشاحنات عبر تشاد في الغرب.