مع تفاقم آثار التغير المناخي وزيادة التحضر السريع، أصبحت المدن المستدامة ضرورة ملحة لمواجهة التحديات البيئية وتحقيق التوازن بين التطور الحضري والحفاظ على الموارد الطبيعية.

تسعى هذه المدن إلى تقليل الانبعاثات الكربونية، وتحسين إدارة الموارد، وتعزيز جودة حياة السكان من خلال حلول مبتكرة ومستدامة.

دروس من أمثلة ناجحة

كوبنهاغن، عاصمة الدنمارك، تمثل واحدة من أبرز المدن المستدامة في العالم.

تسعى المدينة لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2025، وقد نجحت بالفعل في تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 80% بين عامي 2019 و2022 من خلال تحسين شبكات التدفئة والتبريد وزيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة.

أما أمستردام فقد تبنت خطة طموح تهدف إلى تقليل انبعاثاتها الكربونية بنسبة 95% بحلول عام 2050.

من خلال تعزيز استخدام وسائل النقل المستدامة مثل الدراجات الهوائية، وتطوير بنية تحتية خضراء، أصبحت أمستردام نموذجاً لكيفية الدمج بين التنمية الحضرية والاستدامة.

في المنطقة الاسكندنافية، تبرز هلسنكي كأكثر وجهة سفر مستدامة في العالم، حيث يتم توليد 51% من احتياجاتها الكهربائية من مصادر متجددة، بالإضافة إلى ذلك تحقق المدينة معدل إعادة تدوير يصل إلى 49%، ما يجعلها مثالاً يُحتذى في تحسين إدارة النفايات.

أمثلة ملهمة من الخليج

إقليمياً، تقود دول الخليج جهوداً كبيرة في مجال المدن المستدامة؛ في المملكة العربية السعودية، يجري تطوير مشروع « ذا لاين» في نيوم، وهي مدينة بطول 170 كيلومتراً تهدف إلى تحقيق صفر انبعاثات كربونية، مع بنية تحتية تعتمد بالكامل على الطاقة المتجددة.

وفي الإمارات العربية المتحدة، تُعد مدينة مصدر في أبوظبي من أوائل المدن المستدامة في المنطقة؛ تم تصميم المدينة لتقليل استهلاك الطاقة والمياه بنسبة 40% مقارنةً بالمدن التقليدية، كما توفر بيئة حضرية تعزز من جودة الحياة للسكان مع تقليل الانبعاثات الكربونية بشكل ملحوظ.

مدينة الشارقة المستدامة.. نموذج إقليمي رائد

على خطى هذه النماذج العالمية والإقليمية، تُبرز مدينة الشارقة المستدامة نفسها كواحدة من أبرز المشاريع الحضرية المستدامة في المنطقة.

تم تطوير المشروع بالشراكة بين هيئة الشارقة للاستثمار والتطوير (شروق) وشركة «دايموند ديفلوبرز»، بهدف تقديم نموذج حضري يُوازن بين البيئة والاقتصاد والمجتمع.

في حديثه مع CNN الاقتصادية، أشار يوسف أحمد المطوع، الرئيس التنفيذي لمدينة الشارقة المستدامة، إلى النتائج الإيجابية التي حققتها مدينة الشارقة المستدامة بالأرقام، موضحاً أن المنازل المجهزة بألواح شمسية وتقنيات كفاءة الطاقة ساهمت في تقليل فواتير الخدمات بنسبة تصل إلى 50%.

كما ذكر أن المشروع عالج 100% من مياه الصرف الصحي لإعادة استخدامها في ري المسطحات الخضراء، ما قلل من استهلاك المياه بشكل كبير، بالإضافة إلى ذلك تجاوزت مبيعات المشروع 2.5 مليار درهم (680 مليون دولار) عبر مراحله الأربع، ما يعكس الإقبال الكبير على العيش في بيئة مستدامة توفر فوائد اقتصادية وبيئية ملموسة.

كما سلط المطوع الضوء على أبرز التحديات التي واجهها المشروع وكيف تم التغلب عليها.

وأشار المطوع إلى أن بناء مدينة مستدامة يتطلب العمل على أكثر من مستوى، قائلاً: «لم يكن التحدي الرئيسي فقط في إنشاء بنية تحتية خضراء، ولكن في ضمان أن يشعر السكان بأنهم جزء من هذا التحول».

وأوضح المطوع أن أحد أكبر التحديات كان تحقيق القبول المجتمعي، حيث قال: «لم يكن الجميع مقتنعاً بفكرة العيش في مدينة مستدامة في البداية، لذلك ركزنا على التعليم والتوعية، ليس فقط على مستوى السكان، ولكن أيضاً مع الجهات الحكومية والخاصة لدعم المشروع».

وأضاف المطوع أن مدينة الشارقة المستدامة واجهت صعوبات أخرى تتعلق بالتكاليف، مشيراً إلى أن التكلفة المرتفعة للبنية التحتية المستدامة تمثل تحدياً كبيراً في أي مشروع مماثل. ومع ذلك فإن تقديم فوائد ملموسة للسكان، مثل تقليل فواتير الكهرباء بنسبة تصل إلى 50% وإعفائهم من رسوم الخدمات لمدة خمس سنوات، كان جزءاً من استراتيجية جعل الاستدامة أمراً جذاباً وواقعياً للأسر ذات الدخل المتوسط.

وقال، «لم يكن هدفنا فقط إنشاء مشروع ناجح على الورق.. أردنا أن نُظهر للعالم أن الاستدامة ليست رفاهية، بل ضرورة قابلة للتحقيق حتى في بيئة تعاني من تحديات بيئية واقتصادية».

التحديات والفرص

رغم النجاحات الكبيرة التي حققتها المدن المستدامة حول العالم، فإنها تواجه تحديات حقيقية، من أبرزها ارتفاع تكلفة التطوير، والحاجة إلى توعية المجتمع بأهمية الاستدامة، وصعوبة تحقيق التوازن بين البنية التحتية الخضراء والتكاليف، لكن الفرص تظل واعدة مع تطور التقنيات الذكية وزيادة الدعم الحكومي لمثل هذه المبادرات.

كما أن النجاحات المحققة، مثل تلك التي في كوبنهاغن، وأمستردام، وهلسنكي، تُظهر أن الاستثمار في المدن المستدامة ليس رفاهية بل ضرورة لمستقبل أكثر توازناً.

وفي حديثه، أكد المطوع أن مدينة الشارقة المستدامة ليست نهاية الرحلة، بل بداية لرؤية أوسع، «ما حققناه هنا هو إثبات أن المدن المستدامة يمكن أن تكون حقيقة على أرض الواقع، لكنها أيضاً نقطة انطلاق نحو مشاريع أخرى يمكن أن تستفيد من تجربتنا»، أضاف المطوع.