يتزايد الطلب العالمي على الرقائق الالكترونية بوتيرة متسارعة كونها العمود الفقري للصناعات الحديثة كالهواتف الذكية والسيارات الكهربائية والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة، وبالمقابل لا تزال سلاسل الإمداد تكافح تحت أثقال التشدد في السياسات الحمائية التي تطبقها أميركا وأوروبا والضغوطات الجيوسياسية المتسارعة يوماً بعد يوم.
ولتحويل التحديات إلى فرص، شهدت صناعة الرقائق مؤخراً دخول لاعبين جدد كالهند وفيتنام وماليزيا والسعودية والإمارات وتركيا والبرازيل وإندونيسيا.
ونقلت وكالة رويترز في 23 من سبتمبر 2023 عن زيارات تقوم بها كل من شركة تي أس أم تي سي التايوانية وسامسونغ الكورية إلى الإمارات، بهدف إنشاء مصانع لهما بتكلفة قدرتها الوكالة بنحو 100 مليار دولار.
ومع تحفظ شركة TMSC عن الكشف عن أي مخطط أو مشاريع جديدة، رصدت CNN الاقتصادية الدول الناشطة في الدخول بصناعة الرقائق وأبرز العوائق التي تواجه المستثمرين الجدد وتحديات الاستدامة.
تعقيد وتنوع سلاسل الإمداد
وتقول أنيتا نوري، الرئيس التنفيذي ومؤسس شركة تخطيط واستشارات النمو الأخضر (GGPC)، المتخصصة في تعزيز حلول الطاقة المتجددة والإدارة المستدامة للنفايات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا “تدخل أشباه الموصلات في قلب كل برامج الذكاء الاصطناعي، والمركبات الكهربائية، والهواتف الذكية، وغيرها من الأجهزة الإلكترونية، وهي السلع الأكثر رواجاً، ما يعني أن صناعة التكنولوجيا حريصة على التنويع لتقليل اعتمادها على الواردات، وليس من المستغرب أنه مع احتدام المنافسة العالمية في تصنيع أشباه الموصلات، ستحتاج دول مجلس التعاون الخليجي إلى تبني ممارسات مستدامة لتظل قادرة على المنافسة، وتعمل دول مثل الولايات المتحدة وتايوان وكوريا الجنوبية على دمج التقنيات الخضراء ومبادئ الاقتصاد الدائري في عمليات التصنيع الخاصة بها“.
هذا وتغتنم الدول الناشئة الطلب المتزايد على الرقائق لبناء إنتاجها المحلي، مدعومة بالطلب العالمي وبالحاجة إلى تنويع الاقتصاد وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
وفي مقابلة سابقة مع CNN الاقتصادية كشف آندريه بوركاكي، شريك أول في ماكينزي ويتولى قيادة قسم أشباه الموصلات في الشركة، أن الاضطرابات في سلاسل التوريد التي حصلت في السنوات الأخيرة، سواء كان سببها الأحداث الطبيعية أو التوترات الجيوسياسية، هو أمر ينبغي على القطاع الصناعي التعامل معه، «وإن عدداً من اللاعبين يستكشفون الفرص لتنويع بصمتهم في هذا المجال، لضمان المرونة عندما يتعلق الأمر بالقدرة على الحصول على مصادر متعددة في جميع أنحاء العالم»
ورأت هدى الخزيمي الأستاذ المساعد في جامعة نيويورك بأبوظبي ومؤسس مؤسسة (Emaratsec) ورئيس مشارك لمجلس المستقبل لمنتدى الاقتصاد العالمي «إن تنويع مصادر الإمداد والاستثمار في القدرات التصنيعية المحلية يسهم في تعزيز الاستقلالية والمرونة لسلاسل الإمداد، ويضمن أيضاً توزيعاً عادلاً للموارد والفرص للتواؤم وأهداف التنمية المستدامة التي تشدد على أهمية تقليل الفوارق وضمان الوصول العادل إلى التكنولوجيا».
فرصة للاعبين الجدد
ومن المعروف أن سلاسل التوريد في صناعة الرقائق تعاني من التعقيد والتنوع في سلاسل الإمداد، لذلك تحاول كل دولة إيجاد دور لها في هذه السلسلة، وأطلقت الهند على سبيل المثال برنامج الحوافز المرتبطة بالإنتاج الذي جذب شركات مثل Foxconn وVedanta لإنشاء مصانع لتجميع الرقائق فيها.
فيما امتازت فيتنام بتكاليفها المنخفضة وموقعها الاستراتيجي لجذب الشركات الصينية والكورية في تجميع واختبار الرقائق.
وبرزت ماليزيا، التي تشهد نمواً في الاستثمار الأجنبي في صناعة الموصلات كـ إنتل وInfineon وST Microelectronics، كمركز مهم للتغليف المتقدم واختبار الرقائق.
واكتسبت شركة تصنيع أشباه الموصلات CEITEC في المكسيك، بفضل جهودها في توطين الإنتاج، زخماً لتعزيز ثقة المستثمرين الأجانب.
وتسعى كل من تركيا وإندونيسيا والفلبين، التي لا تزال في مراحلها المبكرة في هذا القطاع، إلى إقامة شراكات عالمية لتعزيز قدرات الإنتاج وتطوير صناعة الرقائق.
وتتمتع هذه الدول بمزايا تنافسية مثل انخفاض تكاليف العمالة والحوافز الحكومية والمواقع الاستراتيجية، رغم أن تحديات متعلقة بنقل التكنولوجيا وتطوير البنية التحتية والكفاءات تظل كبيرة.
صعود السعودية والإمارات
لا شك أن رؤى 2030 والتحول الرقمي والأخضر مهدت الطريق نحو تفكير دول الخليج في الإنتاج المحلي للرقائق الإلكترونية، حيث تسعى المملكة إلى استثمار 100 مليار دولار لصناعة أشباه الموصلات واستقطاب 50 مصنعاً للرقائق وإنتاج مليون شريحة بحلول عام 2030.
وفي وقت سابق من هذا العام، على سبيل المثال، وقعت شركة يوكوجاوا للكهرباء ومقرها طوكيو وشركة النفط العملاقة أرامكو اتفاقية مبدئية لتأسيس وتوطين تصنيع شرائح أشباه الموصلات في المملكة العربية السعودية.
وتخطو الإمارات المسار نفسه مع إنشاء بنية تحتية ضخمة، وسبق أن أعلنت الإمارات استثمار 100 مليار دولار في التكنولوجيا المتقدمة وعقد شراكات وتهيئة البنى التحتية لتوطين التكنولوجيا.
وأفادت نوري أن دول مجلس التعاون الخليجي ستحتاج إلى الاستثمار في التقنيات النظيفة لتقليل البصمة البيئية لإنتاج الرقائق، «وتحقيق التوازن بين الرغبة في أن تصبح مركزاً عالمياً للرقائق، مع الحاجة إلى الحفاظ على موارد الطاقة والمياه. وتتطلب صناعة أشباه الموصلات استخدامًا كثيفًا للمياه، ونظراً للظروف القاحلة في دول مجلس التعاون الخليجي، فمن المرجح أن يؤدي ذلك إلى زيادة الطلب على محطات تحلية المياه، التي توفر بالفعل الكثير من إمدادات المياه العذبة في المنطقة، وزيادة جهود تحلية المياه تعني زيادة استهلاك الطاقة، وسيؤدي هذا إلى زيادة الحاجة إلى تقنيات أكثر كفاءة أو زيادة الاستثمار في أنظمة التناضح العكسي التي تستهلك طاقة أقل باختصار، في حين أن التحرك لبناء صناعة أشباه الموصلات في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية يمثل فرصة لتنويع الاقتصادات والمنافسة عالمياً، فإنه يطرح تحديات تتعلق بندرة المياه واستهلاك الطاقة والاستدامة، وسوف تتطلب معالجة هذه القضايا حلولاً مبتكرة في تحلية المياه، وكفاءة استخدام الطاقة، وممارسات التصنيع المستدامة».
المياه العقبة الأساسية
عقبات كثيرة تحول أمام اللاعبين الجدد، منها البنى التحتية المتطورة وإيجاد المواهب وبناء القدرات، تضاف إلى ذلك تحديات استقطاب المواهب وتكلفته العالية وإيجاد مراكز البحث والتطوير والاستثمار فيها.
وتلعب المياه دوراً حاسماً في تطور هذه الصناعة، حيث تعتمد مصانع أشباه الموصلات على المياه لتبريد الأنظمة وتوليد الكهرباء، حيث يستهلك تصنيع أشباه الموصلات كمية هائلة من المياه تعادل ما تستهلكه هونج كونج، المدينة التي يبلغ عدد سكانها 7.5 مليون نسمة، وفقاً لتقرير ستاندرد آند بورز جلوبال.
لكن ما يدفع معظم تعطش الصناعة للمياه هو حاجتها للمياه فائقة النقاء التي تستخدم لشطف بقايا رقائق السيليكون أثناء عملية التصنيع، وفقاً لمنتدى الاقتصاد العالمي.
وتعرف المياه فائقة النقاء بأنها أنظف بآلاف المرات من مياه الشرب، وتتم معالجتها من خلال عمليات مثل إزالة الأيونات والتناضح العكسي لإزالة الملوثات والمعادن والشوائب الأخرى التي يمكن أن تلحق الضرر بالرقائق، ويستغرق الأمر ما يقرب من 1400 إلى 1600 جالون من المياه البلدية لإنتاج 1000 جالون من الماء عالي النقاء، وفق منتدى الاقتصاد العالمي.
وخلص تقرير المنتدى الى أن منشأة تصنيع الرقائق المتوسطة تستخدم 10 ملايين جالون من الماء عالي النقاء يومياً، وهي كمية من المياه تستخدمها 33 ألف أسرة أميركية يومياً.
يمكن أن تؤثر الاضطرابات المحتملة المتعلقة بالمياه في عمليات شركة TSMC، أكبر شركة لتصنيع الرقائق في العالم، على سلسلة التوريد العالمية لأشباه الموصلات بأكملها وتؤدي إلى رفع أسعار المشترين.
ولتدارك انعكاسات التكاليف الزائدة التي من الممكن أن تؤدي إلى رفع الأسعار على المشترين، تتريث ربما الشركات في دراسة التكاليف والربحية المنتظرة لضمان جدوى استثماراتها.
بالنسبة لجان هيوز جافاريني، الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لـLAKE (LAK3) التي تستفيد من تقنية بلوكتشين لتحقيق اللامركزية في الوصول إلى اقتصاد المياه العالمي، فاعتبر صناعة أشباه الموصلات كثيفة الاستهلاك للطاقة وتشكّل الاستدامة عاملاً حاسماً يجب أخذه في الاعتبار.
وبينما تتمتّع دول الخليج بإمكانية الوصول إلى موارد الطاقة الشمسية الوفيرة، فمن الضروري دمج أنظمة إدارة الطاقة الذكية لتحسين الاستخدام.
وقال جافاريني، «فقد استخدمت ألمانيا، على سبيل المثال، تكنولوجيا الشبكات الذكية وحلول تخزين الطاقة لإنشاء شبكة طاقة أكثر كفاءة ومرونة.. إن تبني ابتكارات مماثلة من شأنه أن يمكّن دول الخليج من ضمان إمدادات مستقرة من الطاقة لتصنيع أشباه الموصلات مع تعزيز أهداف الاستدامة الخاصة بها».
ولفت إلى أن جذب المواهب وتعزيز الابتكار أمر لا يقل أهمية، «لقد قامت دول مثل كوريا الجنوبية وتايوان ببناء صناعات أشباه الموصلات الرائدة على مستوى العالم من خلال إنشاء أنظمة بيئية تدعم التعاون بين الأوساط الأكاديمية والصناعة والحكومة، وتتمتع دول الخليج بفرصة فريدة لخلق بيئة مماثلة، مع التركيز على الممارسات المستدامة والشفافة لتميّز نفسها في السوق العالمية.. ومن خلال الاستفادة من هذه التطورات، يمكن للمنطقة أن تصبح مركزاً للتنمية الصناعية المسؤولة والمرنة، وتلبية الطلب العالمي مع مواجهة التحديات المحلية».