هل سألت نفسك يوماً عن العملة الرسمية التي يستخدمها الفلسطينيون في معاملاتهم اليومية، وما إذا كان هناك عملة محلية خاصة بالأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية؟
الإجابة المباشرة هي لا، فحتى الآن، لم يتم إصدار أي عملات خاصة بالأراضي الفلسطينية المؤلفة من قطاع غزة والضفة الغربية، وبدلاً من ذلك، يدير الفلسطينيون تعاملاتهم المالية والتجارية باستخدام الشيكل الإسرائيلي إلى جانب الدولار الأميركي والدينار الأردني.
وفي حين يُستخدم الشيكل في معظم التعاملات اليومية المعتادة، يُستخدم الدولار الأميركي والدينار الأردني لبيع وشراء السلع الأعلى قيمة مثل الإلكترونيات، والماكينات، والأراضي، والعقارات، والسيارات.
لكن ذلك لم يكن الحال قبل قيام دولة إسرائيل منذ أكثر من نصف قرن عندما كانت البلاد خاضعة للدولة العثمانية، ومن بعدها الانتداب البريطاني.
الجنيه الفلسطيني
قبل الحرب العالمية الأولى، كانت دولة فلسطين -المكونة حالياً من إسرائيل والأراضي الفلسطينية- خاضعة للدولة العثمانية، وبالتالي كانت تستخدم عملتها الرسمية حينها وهي (الليرة العثمانية)، إلى جانب عدد من العملات الأجنبية الأخرى، لكن الأوساط التجارية كانت تميل لاستخدام العملة الفرنسية (عملة نابليون الذهبية) التي ظلت العملة المفضلة للتعاملات التجارية قبل الحرب، وفقاً لمنظمة الأمم المتحدة.
ومع بدء الانتداب البريطاني على فلسطين في عام 1917، قررت سلطة الانتداب استبدال الليرة العثمانية بالجنيه المصري ليصبح العملة الرسمية للبلاد حتى عام 1926.
لكن في نوفمبر 1926، تم تأسيس مجلس النقد الفلسطيني -ومقره لندن- الذي أصدر الجنيه الفلسطيني في عام 1927 ليصبح العملة الرسمية الوحيدة في البلاد، وكان يساوي حينها قيمة الجنيه الإسترليني، ويحمل كتابات باللغات الإنجليزية والعربية والعبرية.
ومع انتهاء الانتداب البريطاني وإعلان قيام دولة إسرائيل في مايو أيار 1948، تم حل المجلس وتوقف إصدار الجنيه الفلسطيني، لكن استمر التعامل به خلال المرحلة الانتقالية حتى إصدار الليرة الإسرائيلية في عام 1952، وذلك قبل استبدالها رسمياً بالشيكل القديم في عام 1980 ثم الشيكل الجديد في عام 1985.
حلم العملة الفلسطينية
بموجب اتفاقية أوسلو الموقّعة بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني في عام 1993، تم تأسيس السلطة الفلسطينية، وإنشاء نظام سياسي وطني يضم حكومة ورئيساً للدولة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ونظراً لأن الاتفاقية لم تتطرق للجوانب الاقتصادية، فقد تم إنشاء اتفاق ملحق لها في عام 1994 والمعروف باسم بروتوكول باريس لتنظيم العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، وترتب على ذلك تأسيس سلطة النقد الفلسطينية لتصبح بمثابة الذراع المالية والاقتصادية للسلطة الفلسطينية.
من هنا، بدأ الحلم يراود الفلسطينيين بإصدار عملية محلية للتعامل بها داخل الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية، لكن بروتوكول باريس اشترط موافقة إسرائيل على إصدار عملة فلسطينية محلية، وهو ما لم يحدث حتى اليوم.
وبدلاً من ذلك، أوصى البروتوكول باستخدام الشيكل الإسرائيلي كعملة رسمية في الأراضي الفلسطينية إلى جانب الدولار الأميركي والدينار الأردني.
هل العملة الرقمية هي الحل؟
لا توجد بالأراضي الفلسطينية منشآت لطباعة وصك العملة، ما قد يضطر سلطة النقد لطباعة الأوراق النقدية في مناطق أخرى، وهو ما سيحتاج حتماً إلى الحصول على تصريح السلطات الإسرائيلية كلما حاولت إدخال النقود إلى البلاد، وما يترتب على ذلك من تضييقات وعراقيل محتملة من جانب إسرائيل.
ومن هنا، ظهر اقتراح أكثر عملية على الساحة وهو إنشاء عملة رقمية لتمكين سلطة النقد من التحكم بشكل أكبر في التضخم والتدفقات النقدية، فاعتماد البنوك الفلسطينية على الشيكل يسبب لها العديد من المشكلات، وعلى رأسها ارتفاع مستوى السيولة في النظام المالي.
فإسرائيل تحظر على البنوك الفلسطينية القيام بصفقات ضخمة في إطار سياستها المتشددة لمكافحة غسيل الأموال، كما تفرض سقفاً للمبالغ المالية التي تستطيع البنوك تحويلها بالشيكل إلى إسرائيل شهرياً، ما يجبر البنوك في بعض الأحيان على الاستدانة لتغطية التزاماتها ومدفوعاتها الأجنبية، ويترتب على ذلك إغراق النظام المالي بوفرة هائلة من الشيكل الإسرائيلي.
فوفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، ارتفعت تحويلات الشيكل النقدية الصادرة من البنوك العاملة بالضفة الغربية بأكثر من الضعف خلال ثمانية أعوام، لتقفز من 9.6 مليار شيكل في عام 2013 إلى 21.1 مليار شيكل في عام 2021، وترى سلطة النقد أن العملة الرقمية قد تمثل حلاً عملياً لتلك المشكلة.
عملة فلسطين بين الواقع والمأمول
لكن بغض النظر عن موافقة إسرائيل من عدمها على هذا الاقتراح، فهناك العديد من المشكلات الهيكلية الأخرى التي تعوق إصدار عملة فلسطينية محلية -سواءً نقدية أو رقمية.
وأولى هذه المشكلات هي ضعف الاقتصاد الفلسطيني الذي يعاني من القيود الإسرائيلية المفروضة على حركة البضائع والأفراد، ويعتمد بشكل أساسي على المساعدات الدولية والتحويلات القادمة من إسرائيل، فالعملة القوية تحتاج إلى إطار قوي يدعمها، مثل الاحتياطات النقدية والغطاء الذهبي والمخزونات النفطية، وهو ما لا يتوفر حتى الآن في الاقتصاد الفلسطيني.
فحتى تلك اللحظة، لا يزال الاقتصاد الفلسطيني يعتمد بشكل كامل على نظيره الإسرائيلي، ولا توجد حدود فاصلة فيما بينهما، فنحو 53 في المئة من الواردات الفلسطينية تأتي من إسرائيل، بينما تتجه أكثر من 80 في المئة من صادرات الفلسطينيين إلى السوق الإسرائيلية، وجميع هذه الصفقات تتم بالشيكل.
في الوقت نفسه، تُستخدم العملة الإسرائيلية لدفع رواتب ومعاشات موظفي السلطة الفلسطينية، وأجور العمال الفلسطينيين العاملين في إسرائيل، وتحويل الضرائب التي تجمعها الحكومة الإسرائيلية نيابةً عن السلطة الفلسطينية.
وتُعد أجور العمال المصدر الأكبر لتدفقات الشيكل النقدية في الضفة الغربية، إذ ارتفع عدد الفلسطينيين العاملين بإسرائيل من 83000 شخص في عام 2010 إلى 153000 شخص في عام 2021، ليقفز إجمالي المبالغ التي أدخلوها الدولة إلى 17.4 مليار شيكل، منها 95 في المئة في صورة مبالغ نقدية، بحسب بيانات صندوق النقد.
وبالإضافة إلى التشابك التام بين الاقتصادين الفلسطيني والإسرائيلي، يظل إقناع الفلسطينيين أنفسهم بالانتقال للعملة المحلية المقترحة صعباً للغاية، خاصة أنها لن تمثل وعاءً استثمارياً لحفظ القيمة على غرار الشيكل والدولار والدينار الأردني، فأقصى ما يمكن أن تحققه هذه العملة هو إعطاء إشارة رمزية لسيادة الدولة واستقلاليتها عن إسرائيل.
لكن حلم اقتناء عملة وطنية محلية لا يزال يراود السلطات الفلسطينية التي تدرس الأمر منذ سنوات، لكن يبقى تحقيق هذا الحلم مرهوناً بتحقيق البيئة الملائمة لنجاح تلك العملة.