لعقود من الزمن، حققت الشركات الغربية ثروات عبر الرهان على الصعود القوي للمستهلك الصيني، لكن الآن مع الركود الاقتصادي وظهور منافسين محليين شرسين يبدو أن هذه الرهانات ستكون أكثر مخاطرة مع اندلاع حروب الأسعار.
وتشهد السوق الصينية مزيداً من الخصومات والعروض الخاصة لعدد كبير من العلامات التجارية الاستهلاكية، بدءاً من المواد الغذائية والملابس حتى الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية والسيارات، ما يعكس تحولاً جذرياً في أنماط الاستهلاك في ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
تدور رحى واحدة من حروب الأسعار الأكثر حدة في صناعة السيارات الكهربائية، حيث يدفع سباق «الحياة والموت» المصنعين إلى التدافع من أجل البقاء.
تقلص حصة تسلا
تقلصت حصة تسلا في السوق الصينية إلى 4 في المئة في أبريل نيسان، أي ما يقرب من النصف، بعد أن كانت 7.7 في المئة في مارس آذار، وفقاً للبيانات الصادرة عن جمعية سيارات الركاب الصينية يوم الجمعة.
وانخفضت التسليمات من مصنعها في شنغهاي، وهو الأكبر على مستوى العالم، بنسبة 18 في المئة الشهر الماضي مقارنة بالعام السابق.
ويتناقض هذا الانخفاض الحاد مع ارتفاع المبيعات من قبل أكبر منافسيها الصينيين بي واي دي، التي أعلنت عن قفزة بنسبة 29 في المئة في تسليمات السيارات الكهربائية.
وقالت آن ستيفنسون يانج المؤسس المشارك والمدير الإداري لشركة جيه كابيتال ريسيرش «لقد غيّر الجميع طريقة تفكيرهم في الصين»، «لقد تغير مناخ الأعمال بالكامل».
في الشهر الماضي، أعلنت شركة تسلا عن تخفيضات كبيرة في الأسعار في البلاد، بعد فترة وجيزة من خفض الأسعار أيضاً في الولايات المتحدة وألمانيا، تضاف هذه الخطوة إلى سلسلة تخفيضات الأسعار التي قامت بها في أكبر سوق خارجية لها منذ أواخر عام 2022.
وفي العام الماضي، نما الاقتصاد الصيني بنسبة 5.2 في المئة، وباستثناء سنوات وباء كوفيد 19، كانت تلك أبطأ وتيرة للنمو السنوي منذ عام 1990، عندما زاد الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.9 في المئة فقط بسبب العقوبات الدولية في أعقاب مذبحة ميدان السلام السماوي عام 1989.
تراجع إنفاق المستهلكين
وقد قلص المستهلكون إنفاقهم مع تدهور فرص عملهم ودخلهم في ظل الأزمة طويلة الأمد في العقارات، وانهيار سوق الأوراق المالية.
في التسعينيات، كانت «كل شركة في الغرب» توظف مستشارين وتعقد اجتماعات مجلس الإدارة حول كيفية القيام بالمزيد في الصين، وفقاً لستيفنسون يانج، لكن الآن رحل المستشارون، وبدلاً من الحديث عن كيفية الاستفادة من النمو السريع، أصبحت مناقشات كبار المسؤولين تدور حول «الخروج أو حماية العمليات أو موازنة العرض بين العديد من البلدان».
وأضافت «الصين الآن في مكان قريب من مكانة البرازيل، كبيرة ومهمة لكنها صعبة».
لا تقتصر المشكلات الاقتصادية للبلاد على شركة تسلا وصناعة السيارات الكهربائية، بل أيضاً شركات أميركية عملاقة أخرى مثل أبل وستاربكس وماكدونالدز، جميعها تكافح من أجل تعديل استراتيجيات أعمالها بما يتناسب مع سرعة تغير السوق الصينية.
هواتف آيفون مخفضة
وقال يانغ وانغ، كبير المحللين في شركة كاونتربوينت ريسيرش، إن المخاوف بشأن المستقبل أجبرت المستهلكين الصينيين على أن يكونوا أكثر وعياً بالميزانية، ونتيجة لذلك تراجعت المشتريات المرتبطة بالفخامة أو الرفاهية.
وقال «من المؤكد أن المستهلكين الصينيين يعانون من انخفاض الاستهلاك بشكل عام».
وانخفض إجمالي إيرادات شركة أبل في الصين -بما في ذلك البر الرئيسي للصين وتايوان وهونغ كونغ وماكاو- بنسبة 8 في المئة إلى 16.4 مليار دولار في الربع المالي المنتهي في 30 مارس.
ومن ناحية أخرى، كانت شركة هواوي، بطلة التكنولوجيا الصينية التي حاول الغرب القضاء عليها ذات يوم، تتقدم بسرعة، وارتفعت مبيعات هواتفها الذكية بنسبة 70 في المئة في الربع الأول من عام 2024، مدعومة بالإطلاق الناجح لسلسلة هواتف مات 60 (Mate 60)، وفقاً للبيانات التي جمعتها شركة كونتربوينت ريسيرش.
قال تيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة أبل، في مكالمة هاتفية مع المحللين في وقت سابق من هذا الشهر «إن الصين هي السوق الأكثر تنافسية في العالم»، وأضاف أنه لا يزال يشعر بالتفاؤل بشأن السوق الصينية على المدى الطويل.
وخفضت شركة تصنيع الهواتف الذكية الأميركية أسعار أجهزة آيفون المبيعة في الصين، ما ساعد على ارتفاع شحناتها في مارس، وفقاً للبيانات التي نشرتها الأسبوع الماضي الأكاديمية الصينية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وهي شركة أبحاث مدعومة من الحكومة، يمثل هذا تحولاً مقارنة بالشهرين السابقين من عام 2024، عندما شهدت شركة أبل تراجعاً عميقاً في مبيعات آيفون.
وجرى تقديم بعض طرز آيفون 15 بخصومات تصل إلى 20 في المئة.
معارك الطعام
كما سارعت سلاسل المقاهي أيضاً إلى خفض الأسعار في إطار المنافسة القوية، ففي فبراير شباط الماضي بدأت شركة كوتي كوفي، وهي شركة ناشئة أسسها اثنان من المديرين التنفيذيين السابقين لشركة لوكين كوفي، حملة لخفض أسعار اللاتيه إلى 9.9 يوان (1.4 دولار).
ودفعت هذه الخطوة شركة لوكين، وهي أكبر سلسلة مقاهي في البلاد، إلى اعتماد هذا السعر، ثم خفضت كوتي أسعار اللاتيه مرة أخرى إلى 8.8 يوان (1.2 دولار).
أثرت الخصومات الشديدة على العلامات التجارية العالمية، حتى ستاربكس التي أشارت إلى أنها ليست مهتمة بحرب أسعار في الصين، خفضت فعلياً أسعار اللاتيه إلى أقل من 20 يواناً (2.8 دولار) بعد أن كانت تبيعها عادة مقابل 30 يواناً (4.2 دولار).
وقالت الشركة إن متوسط الشيك المدفوع من قبل عميل ستاربكس انخفض بنسبة 9 في المئة في الصين في الربع الأول من العام، ويرجع ذلك أساساً إلى العروض الترويجية وانخفاض مبيعات البضائع ذات الأسعار المرتفعة.
وفي وقت لاحق، قفزت سلاسل الوجبات السريعة الغربية الأخرى إلى خضم حرب الأسعار، وأطلقت وجباتها المحددة بأسعار منخفضة.
انتشرت منشورات عبر الإنترنت للتعريف بالخصومات الأسبوعية على الوجبات السريعة على وسائل التواصل الاجتماعي التي تغطي أيام الأسبوع كافة، مثل منشور «أيام الاثنين في ماكدونالدز للحصول على ماك ناجتس مجاناً، وأيام الثلاثاء في تاستين للحصول على عرض (واحد مقابل واحد)، وأيام الأربعاء في Dominos للحصول على خصم 30 في المئة، وأيام الخميس في كنتاكي للحصول على صفقة (الخميس المجنون)، وأيام الجمعة في برغر كينغ مقابل للحصول على صفقة نصف السعر».
حتى إن نانتشنغكسيانغ، وهي سلسلة وجبات سريعة مقرها بكين، أطلقت بوفيه إفطار رخيصاً للغاية بـ«3 يوانات (41 سنتاً)»، مسجلة سعراً منخفضاً قياسياً لجميع الوجبات التي يمكنك تناولها.
وقال يانغ من شركة كاونتربوينت للأبحاث، إن معنويات المستهلكين «المكتئبة» من المرجح أن تستمر لفترة من الوقت.
ستضطر بعض العلامات التجارية الغربية «حتماً» إلى إعادة النظر في الأسعار للدفاع عن حصتها في السوق.
وأضاف أن ذلك لن يكون «حلاً سهلاً»، لأن العلامات التجارية الأجنبية في وضع غير مؤات مقارنة بالعلامات التجارية المحلية بسبب ارتفاع تكاليف التشغيل، لكنه يعتقد أنه من غير المحتمل أن ينسحبوا من البلاد.
وعلى المدى المتوسط إلى الطويل، لا تزال الصين قادرة على دفع النمو الاقتصادي العالمي والمساهمة في أكبر مجموعة متنامية من المستهلكين من الطبقة المتوسطة.
وقال «مع تراجع التوقعات الاقتصادية في معظم الدول المتقدمة، واستمرار بعض الجهود للحاق بأسواق نمو الأسواق الناشئة الرئيسية مثل الهند، لا يزال بإمكان الصين أن تكون السوق الأكثر ربحية على مستوى العالم، حتى مع مستويات الاستهلاك المنخفضة». لكن لا بد من خفض التوقعات.
(لورا هي – CNN)