يعد هدر الطعام مشكلة عالمية، حيث يتم «فقد» أو إهدار أكثر من 30 في المئة من المنتجات الغذائية حول العالم سنوياً، وتزيد هذه النسبة في بعض الدول مثل الإمارات العربية المتحدة التي تقدر التكلفة السنوية لهدر الطعام بها بنحو 3.5 مليار دولار نتيجة إهدار 38 في المئة من الطعام المجهز يومياً.

استنزاف للموارد وضرر للبيئة

بالإضافة لاستنزاف الموارد، تثير قضية هدر الطعام تساؤلات حول العدالة الاجتماعية في ظل العدد الهائل من المجاعات حول العالم.

كما تثير المخاوف بشأن التأثير البيئي وتغير المناخ، إذ إن إنتاج الغذاء مسؤول عن 25 من انبعاثات الغازات الدفيئة في العالم فضلاً عن الضغط على الموارد الطبيعية، ففي المتوسط تستخدم الزراعة 70 في المئة من موارد المياه العذبة، أي إن إهدار الغذاء يمثل إهداراً لموارد المياه العذبة أيضاً، خاصة في المناطق القاحلة الفقيرة في مصادر المياه.

وتشهد البحرين أعلى مستوى من النفايات الغذائية بين دول الخليج، بواقع 171 كيلوغراماً من النفايات للشخص الواحد، ولم تُولِ البحرين والكويت وعمان نفس القدر من الاهتمام لمشكلة هدر الطعام مثل دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى كالمملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، التي أجرت جميعها أبحاثاً حول هذه القضية واتخذت خطوات إيجابية لمعالجتها.

وفي الفترة التي سبقت انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (كوب 28) في عام 2023، أعلنت الإمارات عن خطة عمل وطنية لخفض هدر الطعام بنسبة 50 في المئة بحلول عام 2030.

وعلى الصعيد العالمي، يحاول علماء الأغذية باستمرار تحسين (التسلسل الهرمي) لطرق التعامل مع النفايات الغذائية، أي ترتيب طرق معالجة مخلفات الغذاء وفقاً لكفاءتها.

ووفقاً للتسلسل الهرمي للنفايات الغذائية، فإن الخيار الأفضل هو منع توليد نفايات الطعام من الأساس، أما الخيار الأسوأ فهو إلقاء المخلفات في مكب النفايات أو مياه الصرف الصحي، ويرى الخبراء أن النجاح في القضاء على هدر الغذاء من شأنه تغيير عالمنا من خلال القضاء على الجوع حول العالم.

الابتكار.. هو المفتاح لمكافحة هدر الطعام

لتحقيق هذه الغاية، يجب علينا متابعة التقنيات الجديدة التي تساعد على مكافحة الهدر، ففي العديد من مراحل الإنتاج لا يزال هدر الطعام أمراً لا مفر منه.. لذلك، يجب علينا إيجاد طرق لاستغلال هذه النفايات بأفضل طريقة لإعادة استخدامها للاستهلاك البشري، ويُعد ذلك جزءاً أساسياً من مشاريعنا الجديدة التي ننفذها بالتعاون مع شركات الأغذية محلياً وعالمياً.

وتُعد الشركات المنتجة لعصير التفاح مثالاً جيداً على ذلك، تفل التفاح (بقايا عصر التفاح) هو أحد النواتج الأساسية لعملية العصر، في المتوسط يتحول 25 في المئة من التفاح إلى تفل بعد عصره، وإذا علمنا أن سوق عصير التفاح العالمي يقدر بـ6 مليارات لتر سنوياً، فهذا يعني أنه يُنتج نحو 1,500,000 طن من بقايا الطعام كل عام.

ولسوء الحظ، يذهب 80 في المئة منها إلى مكب النفايات، ولا يتم استخدام سوى كمية صغيرة حالياً لتغذية الحيوانات أو التسميد. في مختبر (تفتاك) لتقنيات الأغذية والتخمير، عملنا مع شركة عصير التفاح الإستونية (Siidrikoda OÜ) – Kodas لتطوير منتج يحتوي على تفل التفاح وله فوائد صحية مثبتة علمياً.. أولاً، قمنا بتحليل بقايا الطعام، وحددنا الأجزاء التي يمكن استخدامها للاستهلاك البشري، وقمنا بتطوير التكنولوجيا المطلوبة لفصل الجزء الصالح للأكل، وفي النهاية، طورنا منتجات لذيذة وصحية.

ومن خلال هذه التكنولوجيا، تمكنا من إنقاذ أكثر من 95 في المئة من تفل التفاح من الهدر، وبدأنا بفصل السيقان غير الصالحة واحتفظنا بالأجزاء الصحية الغنية بالألياف والفيتامينات والمعادن.. بعد ذلك قمنا بدمجها مع هريس الفاكهة الأخرى والألياف الإضافية للحصول على منتج صحي ومتوازن وغني بالألياف وذي شكل جذاب، بحسب آراء المستهلكين.

وبالإضافة لقيمته الغذائية المتوازنة ومساهمته في تقليل هدر الطعام، أظهرت دراسة أن منتجنا الجديد ساعد على زيادة عدد البكتيريا المفيدة في الجسم مع تقليل كمية البكتيريا المرتبطة بالسمنة وخفض نسبة الكولسترول في الدم

ويمكن تطبيق هذا النهج على نطاق أوسع من قبل المنتجين الآخرين، ما يحد من هدر شركات العصير حول العالم.

تحويل البقايا لمنتجات عالية القيمة

ويمكن تحقيق نتائج أفضل من خلال التعاون العالمي ومشاركة الابتكارات والتطورات التكنولوجية بين الشركات والدول.

على سبيل المثال، يستخدم مصنع التقطير الإستوني Liviko بقايا الطعام الناتجة عن عملية التقطير لإنتاج مشروبات جديدة مصنوعة يدوياً وخالية من الكحول، كما يتعاون المصنع مع إحدى شركات الجبن المحلية التي تعيد استخدام توت العرعر لإضفاء نكهة إضافية على الجبن والاستفادة من محتوى التوت الغني بالألياف والمعادن الغنية.

وفي صناعة اللحوم، عادة ما تعتبر العظام بقايا غير مرغوب بها، لكن بعض الشركات تستخدمها كمادة خام أساسية لصنع المرق والصلصات عالية الجودة، ويمكن تطبيق الشيء نفسه على عظام الأسماك.

أما سوق المشروبات النباتية الذي تُقدر قيمته العالمية بـ26,80 مليار دولار أميركي، فمن المتوقع أن ينمو بمعدل سنوي يبلغ 13 في المئة حتى عام 2030، وهناك الكثير من البقايا الثانوية الناتجة عن هذه المشروبات، مثل لب الفاكهة والأجزاء غير القابلة للذوبان، ونعمل على تطوير تقنيات ومنتجات جديدة باستمرار لإعادة استغلال مخلفات الطعام الناتجة عن هذه السوق المتنامية.

دول الخليج الأكثر استعداداً للابتكار

تُنصح شركات الأغذية بقياس كمية نفايات الطعام التي تنتجها وإيجاد أفضل الحلول لتجنب إنتاج هذه النفايات من الأساس، وإذا لم يكن ذلك ممكناً فيجب الاسترشاد بالتسلسل الهرمي لاختيار الطرق الأكثر كفاءة للتعامل مع المنتجات الثانوية وإعادة استخدامها للاستهلاك البشري قدر الإمكان.

لن يساعد هذا النهج في تقليل كمية النفايات فحسب، بل سيساعد أيضاً في معالجة العديد من المشكلات العالمية الأخرى كانبعاثات الغازات الدفيئة وندرة المياه، ما يخلق مستقبلاً أفضل لنا جميعاً على مستوى العالم.

وهناك العديد من دول مجلس التعاون الخليجي التي تتمتع برؤية مستقبلية تتيح لها استكشاف الأفكار المبتكرة والحلول الأكثر ذكاءً، ومن خلال الاستفادة من مبادرات الشركاء العالميين يمكننا إحداث فارق حقيقي في الأهداف المستدامة.

* رين كولديارف- قائد فريق الأطعمة والمشروبات الوظيفية وبدائل الألبان في مركز تقنيات الأغذية والتخمير- تفتاك، إستونيا.. عمل كولديارف في مجال أبحاث الأغذية لأكثر من 15 عاماً.

ونشر كولديارف مؤخراً كتاباً شاملاً حول التخمير باللغة الأستونية بعنوان (FERMENTATSIOONIST – AUSALT JA AVAMEELSELT)، والذي فاز بجائزة أفضل كتاب طهي لعام 2023، ومن المتوقع صدور الكتاب قريباً بالنسخة الإنجليزية.