تهدد الظروف الاقتصادية في المملكة المتحدة الفئة الأكثر حرماناً، والذين يعتبرون الآن ليسوا أفضل حالاً مما كانوا عليه منذ 15 عاماً ماضية، وفقاً ل تقرير جديد كشف عن «فجوة متزايدة الاتساع بين الطبقات ممن يستطيعون تدبر أمورهم وأولئك العالقين في القاع».

الاستنتاج القاتم حول عدم المساواة في أحد أغنى الاقتصادات في العالم يأتي من مركز العدالة الاجتماعية، وهو مركز أبحاث مستقل أدى عمله السابق إلى إصلاح نظام الرعاية الاجتماعية في بريطانيا وإدخال الائتمان الشامل، وهو عبارة عن دفعة حكومية شهرية للأشخاص ذوي الدخل المنخفض.

التقرير المؤلف من 300 صفحة، والذي نُشر يوم الأحد، يعد أحدث دليل على أن الركود الاقتصادي في المملكة المتحدة جعل من الصعب للغاية معالجة الفقر، إذ أدت أزمة تكلفة المعيشة إلى تفاقم الصعوبات التي يعاني منها الأشخاص الأقل ثراءً في المجتمع.

وقالت صوفيا وورينجر، نائبة مدير السياسات في مركز العدالة الاجتماعية، يوم الاثنين، خلال حفل إطلاق التقرير «لقد اكتشفنا أمة من نصفين».

وأضافت «يمكن لعامة الناس أن يتدبروا أمورهم المادية، لكن هناك هذه المجموعة من الأشخاص الذين تتسم حياتهم بالتفكك الأسري واعتلال الصحة الجسدية والعقلية؛ الذين يعيشون في مجتمعات مليئة بالجريمة، ويواجهون عوائق متعددة أمام العمل».

ويحذِّر مركز الأبحاث من أن المملكة المتحدة تخاطر «بالانزلاق مرة أخرى إلى دولتي العصر الفيكتوري، هذا العصر الذي تميز بفجوة آخذة في الاتساع بين المجتمع السائد والطبقة الدنيا المنكوبة بالفقر».

فقر العصر الفيكتوري

كان العصر الفيكتوري، الذي استمر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فترة اتسمت بعدم المساواة الاجتماعية الشديدة، إذ واجهت الطبقة العاملة ظروفاً معيشية قاسية، مع قلة فرص الحصول على المياه النظيفة والغذاء والصرف الصحي، وذلك مع فرصة ضئيلة جداً لتحسين حياتهم.

ويخلص التقرير إلى أن الفقر أصبح «مترسخاً» بالمثل في بريطانيا الحديثة، ويرى أن نقص المال ليس سوى واحد من عدة دوافع للحرمان، ويُشار إلى التفكك الأسري، والإدمان، والبطالة، والديون الشخصية الخطيرة، والفشل التعليمي كأسباب رئيسية أخرى.

بلغ متوسط الأجر في الساعة للموظفين بدوام كامل في المملكة المتحدة 17.48 جنيه إسترليني في عام 2023، مقارنة بـ16.40 جنيه إسترليني في العام السابق، في بداية هذه الفترة الزمنية المذكورة، وفي عام 1997، كان متوسط الأجر في الساعة في المملكة المتحدة 7.92 جنيه إسترليني، وارتفع إلى أكثر من 10 جنيهات في الساعة بحلول عام 2003، وأكثر من 15 جنيهاً في الساعة بحلول عام 2020.

في المملكة المتحدة، من المتوقع من أصحاب العمل أن يدفعوا لموظفيهم الحد الأدنى للأجور الذي يتم تحديده حسب عمرهم، على سبيل المثال، كان الحد الأدنى للأجور لمن تقل أعمارهم عن 18 عاماً هو 5.28 جنيه إسترليني في عام 2023، مع زيادة الرقم إلى 7.49 جنيه إسترليني لمن تتراوح أعمارهم بين 18 و20 عاماً، و10.18 جنيه إسترليني لمن تتراوح أعمارهم بين 21 و22 عاماً، و10.42 جنيه إسترليني لمن تبلغ أعمارهم 23 عاماً فما فوق.

هناك أيضاً أجر معيشي مدفوع الأجر طوعاً، ويمكن لأصحاب العمل اختيار دفع أجور عمالهم، بالنسبة للسنة المالية 2023-2024 بلغ هذا المبلغ 12 جنيهاً إسترلينياً في الساعة، وارتفع إلى 13.15 جنيه إسترليني في الساعة للعمال المقيمين في لندن.

وعلى الرغم من هذه القواعد التي تحرص على زيادة الأجور على مدار الأعوام لمن يعملون بدوام كامل في المملكة المتحدة، تظل نسبة كبيرة من الشعب البريطاني تعيش في فقر مدقع.

ويعتمد التحليل الحديث على دراسة استقصائية شملت 6000 شخص، أكثر من نصفهم من المجتمعات الأكثر فقراً، وقام الباحثون أيضاً باستطلاع آراء أكثر من 350 مؤسسة خيرية صغيرة ومؤسسات اجتماعية وخبراء، سافروا إلى أكثر من 20 بلدة ومدينة في المملكة المتحدة.

تقول مقدمة التقرير التي وقعها ميرفين كينج، محافظ بنك إنجلترا السابق، من بين آخرين: «بالنسبة للكثيرين، بريطانيا محطمة، والفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون معرضة لخطر التحول إلى هوة».

ووجد التقرير أن متوسط الأجور الأسبوعية في بريطانيا ظل راكداً منذ الأزمة المالية عام 2008، عند تعديلها حسب التضخم، لا تزال الأجور عند الحد الأدنى منخفضة، اعتباراً من شهر سبتمبر، إذ كان 38 في المئة من الأشخاص الذين يطالبون بالائتمان الشامل يعملون أيضاً، ما يعني أن أرباحهم ليست كافية لتغطية نفقاتهم.

وقال وورينجر إن العمل غالباً ما يكون غير آمن بالنسبة لهؤلاء الأفراد وذا نوعية رديئة، «إن عدم استقرار العمل المتاح بالمقارنة مع استقرار المزايا يجعل الذهاب إلى العمل لا يستحق العناء بالنسبة للبعض».

كارثة الإغلاق في جائحة كورونا

ويخلص التقرير أيضاً إلى أن عمليات الإغلاق أثناء جائحة كورونا أدت إلى تفاقم الدوافع الرئيسية للفقر وكان لها «تأثير كارثي على النسيج الاجتماعي للبلاد».

أثناء عمليات الإغلاق، ارتفعت المكالمات إلى خطوط المساعدة الخاصة بالعنف المنزلي بنسبة 700%؛ وانتشرت مشاكل الصحة العقلية لدى الشباب من واحد من كل تسعة إلى واحد من كل ستة؛ وقفز الغياب المدرسي الشديد إلى 134 في المئة؛ وبحسب التقرير، حصل 1.2 مليون شخص آخر على مدفوعات الرعاية الاجتماعية.

كما ارتفعت الوفيات الناجمة عن التسمم بالكحول، التي كانت تنخفض قبل الوباء، منذ تفشي مرض كوفيد-19 على نطاق واسع.

وقال وورينجر: «أولئك الذين تخلفوا عن الركب ما زالوا يعانون من تأثير جائحة كوفيد-19»، «لم تعد الحياة بالنسبة لهم إلى طبيعتها أبداً، ولا تزال ندوب ذلك الوقت محسوسة بعمق».

وإذا استمرت الاتجاهات الحالية، فإن أكثر من ربع الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و15 عاماً سيعانون من اضطراب في الصحة العقلية بحلول عام 2030، ولو لم يحدث الوباء وعمليات الإغلاق المرتبطة به أبداً، لكانت هذه النسبة أقل من الخمس، وفقاً للتقرير.

وقال وورينجر إن مؤلفي التقرير سيطرحون «مجموعة طموحة من التوصيات السياسية» في الربيع المقبل لمعالجة «الأسباب الجذرية للفقر»، وأضافت أنه بدون استراتيجية للقيام بذلك، فإن «مستقبلنا يبدو سيئاً للغاية».

بشكل منفصل، وجد تقرير نشرته مؤسسة القرار، وهي مؤسسة فكرية، الأسبوع الماضي، أن التفاوت في الدخل في بريطانيا أعلى من أي دولة أوروبية كبيرة أخرى، وقال التقرير إن «المزيج السام من النمو البطيء وارتفاع عدم المساواة كان يضغط على مستويات المعيشة في بريطانيا ذات الدخل المنخفض والمتوسط قبل وقت طويل من حدوث أزمة تكلفة المعيشة».

ووجد هذا التقرير أن الأجور المعدلة حسب التضخم في بريطانيا ظلت ثابتة منذ عام 2007، ما كلف العامل العادي 10700 جنيه إسترليني (13500 دولار) سنوياً في ظل غياب نمو الأجور.

(هنا زيادي، CNN)