في عالم يتسم بالتقلبات الجيوسياسية والتحديات الأمنية المتزايدة، تبرز الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى تحمل على عاتقها مسؤولية كبرى، ليس فقط لحماية مصالحها الوطنية، بل لدعم حلفائها في مواجهة التهديدات المشتركة.

ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية في نوفمبر تشرين الثاني 2024، تتجه الأنظار نحو مستقبل السياسة الأميركية تجاه الإنفاق والمساعدات العسكرية، وخصوصاً في ظل الزيادات اللافتة في الدعم المقدم إلى إسرائيل على خلفية الصراع في غزة.

سلّطت الحرب في غزة الضوء على حجم الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل، الذي برز في صورة زيادة الإنفاق على العتاد والمساعدات، وفجر هذا الوضع تساؤلات حول كيفية تعامل الرئيس الأميركي القادم مع قضايا مماثلة، وسط تحديات جيوسياسية معقدة تشمل العلاقات مع روسيا وأوكرانيا وتايوان، إضافة إلى الاضطرابات الأخرى في الشرق الأوسط.

وبالنظر إلى تعامل المرشحين الرئيسيين في الانتخابات المقبلة، دونالد ترامب وجو بايدن، تبدو الصورة معقدة بشدة.

فقد تعهد الرئيس السابق ترامب، خلال حملته الانتخابية، بتقليص الوجود العسكري الأميركي في الخارج، وهو ما يعد تحولاً جذرياً عن السياسة التقليدية للولايات المتحدة، لكنه لم يلتزم بهذا التعهد بدرجة كبيرة -إبان فترته الرئاسية السابقة- وأمر بزيادات كبيرة في ميزانية الدفاع الأميركية خلال العامين الأولين من إدارته.. وفي ظل الأزمات الحالية كالحرب بين روسيا وأوكرانيا والتوترات مع تايوان، بالإضافة إلى الصراع بين إسرائيل وحماس، يتكرر السؤال حول: كيف سيتعامل ترامب، إذا عاد إلى السلطة، مع هذه التحديات؟

ومن جهة أخرى، يسعى الرئيس الحالي جو بايدن لترسيخ رؤية اقتصادية طموحة تسلط الضوء على أولويات إدارته لولاية ثانية محتملة؛ فبايدن، الذي كشف عن موازنة مقترحة بقيمة 7.3 تريليون دولار للعام المالي 2025، ينظر إلى تعزيز النفقات العسكرية كجزء لا يتجزأ من استراتيجيته للحفاظ على الأمن القومي ودعم الحلفاء الأساسيين.

ورغم أن الرؤيتين مختلفتان بشدة، فإن الإنفاق العسكري في كلا العهدين كان متشابهاً، إذ بلغ حجم الإنفاق العسكري خلال عهد بايدن نحو 3.2 تريليون دولار، بينما بلغ نحو 3 تريليونات دولار خلال عهد ترامب.

استراتيجية الإنفاق العسكري المقترحة لكل من بايدن وترامب

لتمويل موازنته، يسعى بايدن إلى فرض ضرائب أكبر على الأثرياء والشركات الكبرى، وهو ما يعد خطوة جريئة تهدف إلى تحقيق العدالة الضريبية وتقليص العجز في الموازنة.

بالإضافة إلى ذلك، تشمل الموازنة مخصصات لشراء اليورانيوم عالي ومنخفض التخصيب وسداد فوائد الدين الوطني، ما يعكس توجه الإدارة نحو تعزيز القدرات النووية الأميركية والتزامها بالمسؤولية المالية.

وتتضمن الموازنة المقترحة زيادة في ميزانية الدفاع بنسبة 4.1 في المئة لتصل إلى 850 مليار دولار، ما يعكس التزام الإدارة بتقديم المساعدة لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان في مواجهة التحديات الأمنية.

مع ذلك، تواجه الموازنة المقترحة من بايدن تحديات كبيرة في الكونغرس، حيث يسيطر الجمهوريون على مجلس النواب ويعارضون بشدة سياسات الإنفاق الحكومي.

ووصف الجمهوريون الموازنة بأنها «طريق سريع لانحدار أميركا»، معتبرين أنها تعبر عن «شهية لا تشبع للإنفاق المتهور».

في المقابل، طرح ترامب رؤية تتسم بالحذر تجاه المساعدات العسكرية الخارجية، مقترحاً أن يتم تقديمها على شكل قروض يمكن للولايات المتحدة المطالبة بسدادها في حال عدم تلقي الدعم الكافي، ويبدو أن ترامب، الذي أثار جدلاً واسعاً بمواقفه من حلف شمال الأطلسي (ناتو) والتزامات الدول الأعضاء المالية، يسعى إلى إعادة تقييم العلاقات الدولية وأسس المساعدات العسكرية.

الدعم العسكري الخارجي.. بين المرشحين والناخبين

الحرب الروسية الأوكرانية

تأتي الانتخابات الأميركية هذا العام في وقت يشهد فيه العالم تحولات جيوسياسية معقدة، من ضمنها الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، التي أصبحت محوراً للتوترات الدولية.. وفي هذا السياق، كان للرئيس بايدن دور بارز في حشد الدعم العالمي لأوكرانيا، مؤكداً التزام الولايات المتحدة بدعم كييف في مواجهة العدوان الروسي.

وتَمَثل دعم بايدن لكييف في حزم مساعدات قُدرت قيمتها بنحو 46.3 مليار دولار شملت المساعدات الأمنية والأسلحة والعتاد والقروض لشراء أسلحة وعتاد، وتعهد بايدن بمواصلة تقديم الدعم لكييف «ما دام ذلك ضرورياً»، مؤكداً أن «التزامنا تجاه أوكرانيا لن يضعف»، بالمقابل كان ترامب قد ألمح سابقاً إلى إمكانية السماح لروسيا بـ«السيطرة» على أجزاء من أوكرانيا في صفقة مفاوضات لإنهاء الحرب.

الحرب بين إسرائيل وحماس

لطالما كانت الولايات المتحدة الداعم الأكبر لإسرائيل على مرّ العقود،فمنذ تأسيسها كانت إسرائيل أكبر متلقٍ تراكمي للمساعدات الخارجية الأميركية، إذ تلقت نحو 300 مليار دولار معدلة حسب التضخممن إجمالي المساعدات الاقتصادية والعسكرية، بحسب منظمة مجلس العلاقات الخارجية.

ومع اندلاع الحرب بين حماس وإسرائيل، كان لبايدن موقف لافت ودور كبير، كان آخره توجيه الجيش الأميركي لإنشاء ميناء مساعدات في غزة.

وابتداءً من نفس يوم الهجمات التي شنتها حماس في إسرائيل في 7 أكتوبر تشرين الأول، أعرب بايدن عن تضامنه مع إسرائيل وأكد حاجتها إلى محاربة النار بالنار، وسرَّع وتيرة المساعدات العسكرية، بل وسافر إلى إسرائيل والتقى حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.

أما بالنسبة لدونالد ترامب، فكانت تصريحاته بشأن الحرب الدائرة محدودة بشكل ملحوظ، وقال ترامب في مقابلة مع شبكة تلفزيون Univision بعد شهر من الهجوم «لديك حرب مستمرة، وربما يتعين عليك أن تترك هذه الحرب مستمرة» في تصريحات سلطت الضوء على نهجه العام الذي يعتمد على مبدأ عدم التدخل على الرغم من تأكيد دعمه لإسرائيل.

وفي هذا السياق، يقول بلال صعب، زميل مشارك في مركز أبحاث تشاتام هاوس للشؤون الدولية:

إذا كان هناك جانب واحد من سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط يتسم بالاتساق بشكل ملحوظ، فهو مبيعات الأسلحة؛ من كارتر إلى بايدن، ربما تغيرت لهجة الرؤساء، لكن السياسة ظلت هي نفسها؛ بيع، بيع، بيع لعدة أسباب، بعضها اقتصادي، وبعضها جيوسياسي، وبعضها سياسي.

ويضيف صعب أن من العسير التكهن بما سيفعله ترامب في فترة ولاية ثانية، لكن تقليص الموقف الأميركي بشكل كبير في المجالات الحساسة والاستراتيجية ليس مطروحاً على الطاولة فهو يتطلب إجماعاً سياسياً وتلاعباً من قبل بيروقراطية كبيرة في البنتاغون وجيش أميركي يقاوم التغيير، ويقول «الرئيس هو القائد الأعلى لكنه لا يحكم وحده».

انقسام آراء المواطنين الأميركيين بشأن ميزانية الدفاع

على صعيد الداخل الأميركي، تنقسم الآراء بين الناخبين الداعمين للدعم العسكري لكل من أوكرانيا وإسرائيل، سواء كانوا ديمقراطيين أو جمهوريين أو حتى مستقلين.

في ما يتعلق بالدعم العسكري لأوكرانيا، يقف 42 في المئة من مجموع الناخبين على الجانب الرافض للمساعدات العسكرية لأوكرانيا، بينما يؤيد 54 في المئة هذا الدعم العسكري، على الرّغم من التفاوت في شدّة الرفض أو التأييد.

الجدير بالذكر هنا أن عدد الناخبين الرافضين فكرة الدعم العسكري لإسرائيل أكبر بنسبة 8 في المئة، ويبرز الخلاف الأساسي بين الديمقراطيين والجمهوريين حول الدولة التي سيتم دعمها، وليس فكرة الدعم العسكري في العموم، ففي حين تؤيد نسبة أكبر من الديمقراطيين الدعم العسكري لأوكرانيا، إلا أن اهتمام الجمهوريين يصب في مصلحة الدعم العسكري لإسرائيل.

واليوم، يقف الناخبون الأميركيون أمام قرارات مصيرية تتعلق بمستقبل سياسة بلادهم الخارجية والعسكرية، مع تزايد التحديات العالمية والأزمات الإقليمية.. ويصبح السؤال حول نوع القيادة التي يرغب الأميركيون في اختيارها لتوجيه سفينة الدولة خلال الأعوام القادمة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.

وفي نهاية المطاف، القرار بيد الناخبين الأميركيين، الذين يحملون على عاتقهم مسؤولية اختيار الطريق التي ستسلكه الولايات المتحدة في المستقبل، ومع اقتراب موعد الانتخابات يزداد النقاش والتحليل حول تأثير هذا الاختيار ليس فقط على الأميركيين، بل على العالم بأسره.