يبدو أن العالم على موعد مع حقبة جديدة من مدن الأشباح على غرار القرن الـ19، والسبب.. التغير المناخي.
ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، هاجر عدد كبير من سكان المدن التي اشتهرت بأنشطة التنقيب والتعدين بسبب نضوب الموارد الطبيعية وانخفاض الجدوى الاقتصادية لتلك المناطق، لكن مع مرور الوقت حظيت بعض هذه المدن بفرصة جديدة للحياة مع تحولها لمناطق جذب سياحي ممتعة ومبهجة.
وتختلف أسباب تحول هذه المدن لمناطق مهجورة ما بين الأسباب الطبيعية الخارجة عن السيطرة والممارسات البشرية الخاطئة التي أفسدت التوازن الطبيعي للبيئة المحيطة.
أما هذه المرة، فتشير أصابع الاتهام بشكل مباشر إلى التغير المناخي الناجم عن سوء استغلال الإنسان للموارد الطبيعية للكوكب.
النزوح المناخي
أدت ظاهرة التغير المناخي إلى زيادة ملموسة في شدة وتواتر الكوارث البيئية المتطرفة كالفيضانات المدمرة والجفاف والعواصف وحرائق الغابات ودرجات الحرارة القصوى، والتي يتوقع الخبراء أن تؤدي لظهور أول موجة من المدن المهجورة نتيجة النزوح الجماعي للسكان هرباً من الكوارث، أو ما يُعرف باسم النزوح المناخي.
وفي هذا السياق، أشارت غايا فينس، مؤلفة كتاب (كيف ستعيد الهجرة المناخية تشكيل عالمنا) إلى أن العالم بدأ يشهد بالفعل بوادر على هذه الموجة الجديدة، مع نزوح السكان عن المناطق الأكثر تأثراً بالعواصف وارتفاع منسوب مياه البحر والفيضانات والحرائق.
واستشهدت بالعديد من الأمثلة الحديثة مثل حرائق الغابات في هاواي وكاليفورنيا وأستراليا، والفيضانات في بنغلاديش، باعتبارها من أحدث أسباب نزوح السكان.
وتساءلت «كم عدد الأشخاص الذين سيعودون إلى لاهاينا في هاواي بعد الحرائق هناك؟ لا أعتقد أن أياً من السكان الذين غادروا سيعود».
لا ملاذ آخر
عادة ما يكون التخلي عن الوطن هو الخيار الأخير في سيناريو الأزمات، ولا يتم اللجوء إليه إلا بعد استنفاد جميع الخيارات الأخرى، لما يترتب عليه من آثار اقتصادية ونفسية باهظة، إذ يضطر الأشخاص لتوديع حياتهم بأكملها، بما في ذلك تقاليدهم، وعائلاتهم، وأصدقاؤهم، بل وقبور أسلافهم، بعد أن أصبحت مجتمعاتهم الأصلية غير صالحة للحياة، وهو أمر مؤلم للغاية.
وفقاً لتقديرات الخبراء، يُجبر أكثر من 20 مليون شخص إلى مغادرة منازلهم بسبب الظواهر الجوية القاسية كل عام.
وفي بعض الحالات، يتم تقديم المساعدة لإعادة توطين السكان أو إجبارهم على ذلك من خلال خطط حكومية منظمة توفر لهم الدعم المالي واللوجيستي، لكن هذه الفرصة قد لا تكون متاحة في العديد من الحالات الأخرى.
مدن الأشباح
فيما يلي أمثلة لخمس مناطق تحولت لمدن أشباح تشكلت تحت تأثير التغيرات المناخية التي تضرب العالم، والتي يعتبرها الخبراء نذيراً لظهور المزيد من المناطق المهجورة في المستقبل.
فونيدوغولوا – فيجي
إن جزيرة فيجي الواقعة في جنوب المحيط الهادئ معرضة بشكل كبير لآثار تغير المناخ الناجمة عن ارتفاع منسوب مياه البحر وشدة الأعاصير.
وتخطط حكومة فيجي لنقل العشرات من المجتمعات الساحلية إلى مناطق مرتفعة، مع اقتراب خطر غرقها تحت الماء أكثر من أي وقت مضى.
وكانت قرية فونيدوغولوا الساحلية الصغيرة، الواقعة في فانوا ليفو، ثاني أكبر جزيرة في البلاد، هي الأولى من بين المجموعة التي تم نقلها إلى أحد التلال الداخلية الخصبة في عام 2014.
واليوم، فإن بقايا القرية الأصلية، التي تجتاحها النباتات الآن، هي كل ما تبقى في الموقع القديم الذي كان يعيش فيه نحو 150 شخصاً.
جزيرة دي جان تشارلز – لويزيانا
تعرضت المجتمعات على طول ساحل لويزيانا لدمار واسع بسبب تغير المناخ الذي أدى لارتفاع مستوى سطح البحر، وتآكل السواحل، وزيادة حدة العواصف والأعاصير.
فجزيرة جان تشارلز، وهي جزيرة في خليج المكسيك على بعد نحو 80 ميلاً (129 كيلومتراً) جنوب نيو أورليانز، كانت تمتد ذات يوم على مساحة 22 ألف فدان، لكن اليوم، لم يعد يتبقى سوى 320 فداناً فقط من الجزيرة الغارقة.
وبعد حصول المجتمع المحلي على منحة حكومية، تم تطوير مستوطنة حديثة على أرض مرتفعة أُطلق عليها اسم «الجزيرة الجديدة» على بعد نحو 40 ميلاً شمال الجزيرة.
وبدءاً من أكتوبر 2023، انتقلت جميع عائلات جزيرة آيل دوجان تشارلز الأصلية إلى هناك باستثناء أربع.
كوتول موري، مولدوفا
تُعد مولدوفا من أكثر البلدان المعرضة لتداعيات تغير المناخ في أوروبا، إذ تواجه مخاطر مناخية مستمرة مثل موجات الحر والعواصف والجفاف، وعلى الأخص الفيضانات، بعد أن تعرضت لثلاثة فيضانات كبرى في السنوات العشرين الماضية.
وأدت هذه الفيضانات في الدولة ذات الكثافة الزراعية العالية إلى خسائر مدمرة بعد أن تعرضت العديد من القرى لأضرار لا يمكن إصلاحها.
وكانت كوتول موري من أكثر المناطق المتضررة، وهي قرية صغيرة تقع على ضفاف نهر بروت والتي غمرتها الفيضانات الكارثية في عام 2010.
وبدلاً من إعادة بناء القرية الأصلية، أمرت الحكومة بإنشاء قرية كوتول موري الجديدة على بعد تسعة أميال من الموقع الأصلي.
منتجع تشاكالتايا للتزلج – بوليفيا
افتُتح منتجع تشاكالتايا، الذي يبلغ ارتفاعه 17 ألفاً و388 قدماً، في ثلاثينيات القرن العشرين باعتباره منتجع التزلج الوحيد في جبال الأنديز في بوليفيا، ليصبح أعلى منتجع للتزلج في العالم حينها.
ولعقود طويلة، كان المنتجع الواقع على قمة الجبل يرحب بالمتزلجين المحترفين والهواة من جميع أنحاء العالم خلال أشهر الشتاء، حتى أُغلق أبوابه في عام 2009 والسبب.. ذوبان الجليد.
كان ذلك هو العام نفسه الذي ذاب فيه نهر تشاكالتايا الجليدي البالغ عمره 18 ألف عام بالكامل بسبب تغير المناخ، لتختفي الكثير من الثلوج معه.
فالماير – إلينوي
في عام 1993، غمر فيضان نهر المسيسيبي العظيم بلدة فالماير الصغيرة في إلينوي، ما أدى إلى إتلاف غالبية مبانيها، لكن السكان البالغ عددهم نحو 900 شخص قرروا إعادة بناء بلدتهم بدعم من التمويل الحكومي.
وبعد مرور 30 عاماً، تعتبر مدينة فالماير الجديدة بمثابة نموذج لما يمكن أن تصبح عليه المدن المتضررة من التغيرات المناخية في حالة إدارة تلك التغيرات بنجاح.