تزداد حدة حرب الرقائق بين أميركا والصين، مع ترقب القائمة التي ستعلن عنها واشنطن حول مصانع الرقائق الصينية المتقدمة المحظورة من تلقي الأدوات التكنولوجية الأميركية الرئيسية، بينما تحاول بكين تقليل اعتمادها على الشركات الأجنبية من خلال تعزيز صناعة أشباه الموصلات المحلية.
لكن حرب الرقائق بين الدولتين ليست جديدة، فقد بدأت منذ أعوام في ظل الأهمية المتنامية للرقائق الذكية التي أصبحت نواة الحياة الحديثة مع استخدامها في مختلف القطاعات، بدءاً من الأجهزة الإلكترونية حتى صناعة السيارات والطائرات والأجهزة الطبية.
وتتراوح قيمة مشاريع أشباه الموصلات في الولايات المتحدة بين 223 مليار دولار و260 مليار دولار حتى عام 2030، بما في ذلك المشاريع قيد التنفيذ أو الدراسة، وفقاً لتقرير شركة ماكينزي آند كومباني.
كما توقعت الشركة في تقريرها أن تبلغ سوق أشباه الموصلات نحو تريليون دولار من حيث القيمة بحلول عام 2030.
القضاء على هيمنة بكين
من الصعب تحديد الوقت الفعلي الذي بدأت فيه حرب الرقائق، إلا أنها مستمرة منذ ما يقرب من عقدين، وكانت بعض الدول قد احتكرت هذه الصناعة؛ نظراً لصعوبة تصنيعها، وتكلفة إنتاجها العالية.
فقد هيمنت الصين وتايوان على هذه الصناعة، إذ أصبحت الدولتان المورد الوحيد لهذه المنتجات المتقدمة للشركات من مختلف القطاعات حول العالم، وهو الأمر الذي انتبهت إليه أميركا.
اشتعل فتيل المعركة في مايو أيار 2020، عندما أعلنت وزارة التجارة الأميركية عن منع الشركات التي تستخدم التكنولوجيا الأميركية من تصميم أو إنتاج أشباه الموصلات لشركة هواوي الصينية.
وبعد عدة محاولات لكبح جماح بكين في هذا المجال، عادت حرب الرقائق من جديد إلى الواجهة عقب سن قانون الرقائق والعلوم الأميركي، من قبل الكونغرس وتوقيعه من جانب الرئيس جو بايدن، ليدخل حيز التنفيذ في التاسع من أغسطس آب عام 2022.
وفي أكتوبر تشرين الأول من العام ذاته، فرضت واشنطن عقوبات على بكين بهدف منع الشركات الصينية من الوصول إلى المعدات الأميركية الحديثة اللازمة لتصنيع الرقائق الإلكترونية، وذلك بعد فترة من اندلاع جائحة كوفيد-19 التي لعبت دوراً مهماً في تنمية هذه الصناعة.
فقد تسبب الحظر المنزلي في ارتفاع نسبة العمل والتعلُم عن بُعد، ما عزز الطلب على أجهزة الحاسب الآلي، والأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية المزودة بالرقائق، ما أدى بدوره إلى استنفاد المخزون.
على الجانب الآخر، تسببت مشكلات سلسلة التوريد جراء الجائحة في حدوث اضطرابات في صناعة السيارات، ما أدى إلى تعليق الإنتاج وتراجع المبيعات، كما ألغت شركات السيارات طلبياتها، لكن مع زيادة الإنتاج مرة أخرى قرب نهاية عام 2020، لم يكن هناك إمدادات متاحة من أشباه الموصلات.
وشهد القطاع أعواماً قاسية، على سبيل المثال، تراجعت مبيعات السيارات في ألمانيا في عام 2021 إلى أدنى مستوى لها منذ 1990 متأثرةً بنقص إمدادات أشباه الموصلات، إذ بلغت المبيعات طوال العام 2.62 مليون سيارة فقط، بحسب تقرير الهيئة الفيدرالية للسيارات في ألمانيا.
وفي مارس آذار عام 2023، أعلنت اليابان وهولندا بشكل منفصل عن ضوابط تصدير جديدة على تقنيات أشباه الموصلات ومعدات التصنيع المتقدمة، ورغم أن أياً من الإعلانين لم يذكر الصين كهدف مقصود، فقد كان مفهوماً على نطاق واسع أن هذه التدابير تأتي ضمن التضامن مع الإجراءات الأميركية ضد بكين.
من جهتها، كشفت الصين في مايو أيار 2023، عن حظرها استخدام رقائق ميكرون في مشاريع البنية التحتية الوطنية الرئيسية، كما فرضت قيوداً على تصدير الغاليوم والجرمانيوم، في أغسطس آب من العام ذاته.
ويبدو أن العقوبات الأميركية قد أثبتت قوتها، فقد كشف اتحاد صناعة أشباه الموصلات أوائل أبريل نيسان الجاري، أن إجمالي مبيعات صناعة أشباه الموصلات العالمية في شهر فبراير شباط 2024، بلغ نحو 46.2 مليار دولار، بزيادة قدرها 16.3 في المئة، مقارنة بـ39.7 مليار دولار في فبراير شباط من العام الماضي، لكن بانخفاض 3.1 في المئة عن 47.6 مليار دولار في شهر يناير كانون الثاني 2024.
وتمثل رابطة صناعة أشباه الموصلات نحو 99 في المئة من صناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة، وما يقرب من ثلثي شركات الرقائق غير الأميركية.
كانت شركة الأبحاث أومديا كشفت في تقرير لها عن تباطؤ صناعة أشباه الموصلات، مع انخفاض الإيرادات بنسبة 9 في المئة من 597.7 مليار دولار في عام 2022 إلى 544.8 مليار دولار في عام 2023.
أسباب تكنولوجية أم سياسية؟
تتطلع الصين إلى تكوين جيش قوي يتوافق مع أحدث المعايير العسكرية العالمية بحلول عام 2049، وفقاً لما سبق وأكده الرئيس الصيني، شي جين بينغ، ووضعت بكين إحدى الاستراتيجيات الرئيسية لتحقيق هذا الهدف، والتي تعتمد على الاندماج العسكري المدني، وهو مشروع يسعى إلى تطوير صناعات التكنولوجيا والعلوم في الصين، حتى يصبح قطاع التكنولوجيا التجارية أكثر ارتباطاً بالإدارات العسكرية والدفاعية في البلاد.
وتشمل هذه التقنيات الحوسبة الكمومية، والتكنولوجيا النووية، وربما الأهم من ذلك كله، الذكاء الاصطناعي.
من هنا، جاءت الحرب الدرامية على الرقائق بين أميركا والصين، ففهم النهج الصيني يمكن أن يقطع شوطاً طويلاً نحو تفسير سبب تصرف حكومة الولايات المتحدة بهذه الطريقة الصارمة، خاصة أن بكين كانت أكثر جرأة في السنوات الأخيرة في تأكيد هيمنتها على منطقة المحيط الهندي، وبشكل أبرز من خلال أعمالها العدائية في بحر الصين الجنوبي، فضلاً عن العداوة مع تايوان.
وترى واشنطن أن هذه الأعمال التصعيدية والأهداف القومية الواضحة لبكين تمثل تهديدات كبيرة لأمنها القومي والأمن القومي للدول الآسيوية الأخرى.
وتعاني تايوان من وضع ضعيف، إذ يشعر خبراء سلسلة التوريد والمسؤولون الأميركيون بالقلق من أن التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين والعدوان العسكري المحتمل ضد الجزيرة من قبل بكين يمكن أن يعطل صناعة الرقائق الحيوية.
ومؤخراً، وافقت الحكومة الأميركية على منح 6.6 مليار دولار لشركة (تي إس إم سي) التايوانية، وهي أكبر شركة مصنعة لرقائق أشباه الموصلات في العالم لمساعدة واشنطن في بناء ثلاثة مصانع في أريزونا كجزء من جهود الرئيس الأميركي جو بايدن لتأمين توريد الرقائق المتقدمة.
من جهتها، قالت شركة تصنيع الرقائق التايوانية، التي تصنع ما يقدر بنحو 90 في المئة من الرقائق الأكثر تقدماً في العالم، إنها ستبني مصنعاً جديداً، إضافة إلى مصنعين أميركيين أُعلن عنهما سابقاً، ليصل إجمالي استثماراتها في أريزونا إلى أكثر من 65 مليار دولار.
بدورها، تكبدت شركة إنتل خسائر تشغيلية جديدة في وحدة تصنيع الرقائق الخاصة بها، ما يمثّل ضربة للشركة في وقتٍ تحاول فيه استعادة الريادة التكنولوجية التي فقدتها في السنوات الأخيرة لصالح صانعة الرقائق التايوانية تي إس إم سي.
وقالت إنتل إن وحدة تصنيع الرقائق سجّلت خسائر تشغيلية بقيمة سبعة مليارات دولار لعام 2023، أكبر من الخسائر التشغيلية البالغة 5.2 مليار دولار في العام السابق.
وبلغت إيرادات الوحدة 18.9 مليار دولار لعام 2023، بانخفاض بنسبة 31 في المئة، مقارنة بإيرادات 2022 البالغة 27.49 مليار دولار.
هل تستسلم الصين؟
مع فرض القيود الأميركية على بكين، يبدو أن معركة حرب الرقائق هذه لن تنتهي بسهولة، فمثلاً فرضت الولايات المتحدة في عام 2019 قيوداً على وصول هواوي إلى التكنولوجيا الأميركية واتهمت الشركة بأنها تشكل تهديداً أمنياً.
لكن على الرغم من ذلك، سجلت هواوي الصينية خلال 2023 أسرع نمو لها في أربع سنوات، وسط انتعاش في قطاع المستهلكين والدخل من الأعمال الجديدة مثل مكونات السيارات الذكية ما أدى إلى تسريع تعافيها من العقوبات الأميركية.
وارتفعت الإيرادات 9.63 في المئة عن العام السابق إلى 704.2 مليار يوان (97.48 مليار دولار)، مع مساهمة الأعمال الاستهلاكية بشكل كبير في هذا الرقم بنموها 17.3 في المئة إلى 251.49 مليار يوان.
وفي سبتمبر أيلول 2023، كشفت الصين عن إطلاق صندوق استثماري تدعمه الدولة لجمع نحو 40 مليار دولار لتعزيز قطاع أشباه الموصلات في البلاد، ورجّحت رويترز أن يكون الصندوق الجديد الأكبر ضمن الصناديق الثلاثة التي أطلقها صندوق استثمار صناعة الدوائر المتكاملة الصيني، إذ يستهدف الصندوق الجديد جمع أكثر من 300 مليار يوان أو نحو 41 مليار دولار، متجاوزاً ما ضُخ في عامَي 2014 و2019 -138.7 مليار يوان و200 مليار يوان على التوالي- وفقاً لتقارير حكومية.
ويبقى المعيار الذي يحدد الفائز هو إمكانية توسيع الهوة بين أميركا والصين، وكيفية استخدام الرقائق، فالفائز في هذه الحرب لن يكون الذي يمتلك الرقائق الأكثر دقة فقط، بل الذي يستطيع استخدامها بشكل أكثر فاعلية، خاصة مع خطط الصين للتحول نحو الاكتفاء الذاتي في صناعة أشباه الموصلات، إذ ضخت استثمارات بقيمة 143 مليار دولار في الصناعة المحلية، كما وضعت خططاً لإعفاءات ضريبية وحِزم حوافز لمدة خمس سنوات، إضافة إلى تقديم منح وقروض لدعم أبحاث وإنتاج أشباه الموصلات.