أبرزت التوترات الجيوسياسية الأخيرة دور الدولار الأميركي كسلاح استراتيجي تستخدمه الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون للضغط على خصومهم، وذلك عبر فرض عقوبات اقتصادية على الدول التي تتعارض مع مصالحهم.
وهو ما يظهر بوضوح في العقوبات المفروضة على إيران والصين وفنزويلا وروسيا التي تم استبعادها تماماً من نظام سويفت المالي الدولي في أعقاب الحرب الأوكرانية، فيما اعتبره المحللون أحد أقسى العقوبات المالية في تاريخ العالم ودفع المزيد من الدول نحو البحث عن بدائل للدولار.
هل يرتد السلاح على صاحبه؟
هذا النوع من الممارسات العقابية دفع الكثير من الدول -ومن بينها بعض حلفاء واشنطن- إلى السعي لتقليل اعتمادها على الورقة الخضراء، ما يطرح سؤالاً مهماً: هل ينقلب السحر على الساحر وتتأثر هيمنة العملة الأميركية على المعاملات الدولية مستقبلاً؟
فهيمنة الدولار الأميركي على التعاملات الدولية هو ما يمكّن واشنطن من استخدامه سلاحاً فعّالاً ضد خصومها، فبحسب صندوق النقد الدولي، مثلت العملة الأميركية أكثر من 59 في المئة من الاحتياطي العالمي من العملات الأجنبية في الربع الثالث من 2023، في حين بلغت حصتها في نظام سويفت 43 في المئة، وفقاً لتقرير جيه بي مورغان.
ومع تزايد التهديد بسلاح العقوبات الاقتصادية، اشتعل النقاش من جديد حول الدور المهيمن للدولار في النظام المالي العالمي، وسط محاولات لاستبداله بالعملات المحلية في المعاملات والمدفوعات الدولية.
روسيا تقود التحول بعيداً عن الدولار
تُعتبر روسيا مثالاً بارزاً على جهود التحول بعيداً عن الدولار الأميركي لمكافحة آثار العقوبات الاقتصادية التي بدأت في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية.
فبعد اندلاع الحرب، تم تجميد أصول البنك المركزي الروسي لدى دول مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي وأستراليا، والتي تُقدر بنحو 260 مليار يورو (280 مليار دولار)، فيما تبحث تلك الدول استخدام الأصول الروسية المجمدة لديها لإعادة إعمار أوكرانيا، وهو ما وصفته موسكو بالسرقة، مهددة بالرد بقوة على أي محاولة لاستغلال أصولها.
وبالفعل أجرى المركزي الروسي تغييرات جذرية لتقييد التعامل بالدولار في المدفوعات المالية مستعيضاً عنه بالروبل واليوان، ما خفف تأثير العقوبات الغربية على موسكو.
وفي وقت سابق هذا الشهر، انتقد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، سياسة واشنطن باستخدام الدولار كأداة ضغط معتبراً ذلك خطأً استراتيجياً فادحاً يهدد قوة الولايات المتحدة لأنه يدفع الدول الأخرى لتقليل اعتمادها على العملة الأميركية.
وقال بوتين خلال المقابلة التي أجراها معه الإعلامي الأميركي تاكر كارلسون في فبراير شباط الجاري إن «الدولار الأميركي واليورو استحوذا على نحو 80 في المئة من معاملات التجارة الخارجية لروسيا في 2022، بينما شكّل الدولار ما يقرب من نصف المعاملات مع الدول الأخرى، إلا أن تلك النسبة انخفضت حالياً إلى 13 في المئة فقط».
كما أشار بوتين إلى أن حصة اليوان من معاملات روسيا ارتفعت من 3 في المئة فقط في 2022 إلى 34 في المئة في الوقت الحالي، كما زادت حصة الروبل في معاملات روسيا الدولية إلى 34 في المئة أيضاً.
وروسيا ليست الدولة الكبرى الوحيدة التي تقع تحت طائلة العقوبات الأميركية، فقد سبقتها لذلك دول مثل الصين التي تعرضت لممارسات عقابية متزايدة، خاصة في عهد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب.
وهو ما دفع تلك الدول وغيرها للسعي لتقليل الاعتماد على الدولار واستبداله بالعملات المحلية في المدفوعات الدولية.
وهو أحد الأسباب وراء إنشاء وتوسيع مجموعة البريكس التي كانت تضم في البداية خمس دول فقط هي روسيا والصين والبرازيل وجنوب إفريقيا والهند، قبل أن تتوسع لتشمل خمس دول أخرى في بداية العام الجاري.
ففي يناير 2024، انضمت كل من مصر والسعودية والإمارات وإيران وإثيوبيا إلى مجموعة البريكس من أجل تعزيز قوة المجموعة في النظام العالمي.
عملة البريكس المشتركة وهيمنة الدولار
يحاول تحالف البريكس إنشاء عملة مشتركة للحد من سيطرة الدولار على التجارة العالمية، إذ دعت البرازيل وروسيا إلى إنشاء عملة مشتركة يطلق عليها ( عملة البريكس) لاستخدامها في التعاملات المالية بين دول المجموعة، للحد من تعرضها لتقلبات سعر صرف الدولار.
لكن حلم عملة البريكس يواجه العديد من الصعوبات نظراً للفوارق الاقتصادية والسياسية والجغرافية بين دول المجموعة، وإلى حين يتم التغلب على تلك الصعوبات، لجأت المجموعة لأساليب أخرى للحد من هيمنة الدولار، مثل إبرام العديد من الاتفاقات التي تتيح الدفع بالعملات المحلية في المعاملات التجارية والمالية فيما بينها.
والبريكس ليست التكتل الدولي الوحيد الذي يسعى لاستخدام العملات المحلية في المدفوعات، إذ أعربت العديد من المنظمات الحكومية الدولية عن نيّات مماثلة، ومن بينها رابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان)، ومنظمة شنغهاي للتعاون (SCO)، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي.
وتمثل هذه المنظمات مجتمعة قوة كبيرة، خاصة أن الصين واليابان والهند من بين أعضائها، وهي ضمن الدول التي تمتلك أكبر احتياطي من العملات الأجنبية في العالم.
تداعيات العقوبات الأميركية تطول الحلفاء
نظراً لأن العقوبات التي تفرضها الإدارة الأميركية تزيد مخاطر الاحتفاظ بالأصول بالدولار الأميركي، فهناك ميول متزايدة نحو تنويع المدفوعات الدولية بعيداً عن الدولار، ليس فقط لدى الدول المستهدفة بالعقوبات بل ولدى الدول الحليفة لأميركا أيضاً.
على سبيل المثال، كشفت دراسة لبنك فرنسا حول نشاط الشركات الفرنسية خلال الفترة بين 2011 إلى 2020 أنه بعد بدء جولات العقوبات الأميركية ضد روسيا في عام 2014، انخفض ميل الشركات الفرنسية إلى إصدار فواتير الصادرات الموجهة لروسيا بالدولار الأميركي.
وبحلول عام 2020، وجدت الدراسة انخفاضاً بنحو أربع نقاط مئوية في معدل إصدار الفواتير بالدولار من قبل الشركات الفرنسية، أي بعد ست سنوات فقط من بدء العقوبات.
وأشارت الدراسة إلى أن «التغير في تكوين الاحتياطيات الدولية لدى البنك المركزي الروسي قللت حماس الشركات الخاصة في روسيا للاحتفاظ بالدولار، وحدت من أهمية إصدار الفواتير بالعملة الأميركية».
وفي سياق مشابه، أقرت وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، خلال مقابلة مع شبكة CNN العام الماضي، بأن العقوبات المالية التي تفرضها الولايات المتحدة قد تقوض هيمنة الدولار على المدى الطويل، لافتة إلى صعوبة إيجاد بديل عملي للعملة الأميركية في الوقت الحالي.
هل تكون العملات الرقمية بديلاً؟
لا تزال سوق العملات المشفرة في مرحلة ناشئة، لكن زيادة الاهتمام بالأصول الرقمية -مثل البيتكوين– وخطط إصدار العملات الرقمية للبنوك المركزية من شأنها تغيير المشهد في سوق العملات بشكل كبير، بحسب تقرير حديث لبنك مورغان ستانلي اطلعت عليه «CNN الاقتصادية».
وقال التقرير «دفعت السياسات النقدية الأميركية الأخيرة واستخدام العقوبات الاقتصادية كسلاح استراتيجي بعض الدول إلى النظر في بدائل للدولار، بما في ذلك السعي لتطوير عملات رقمية جديدة، وهو توجه تقوده الصين في الوقت الراهن».
ورغم أنه لا يزال من المبكر الجزم بتأثير العملات الرقمية على قوة الدولار، فإنها تشير لتحول واضح نحو تقليل الاعتماد على الورقة الخضراء لصالح العملات المشفرة والعملات الرقمية الرسمية، وفقاً لبنك مورغان ستانلي.