يعطي الاقتصاد الأميركي في الآونة الأخيرة العديد من المؤشرات المتباينة التي تثير التساؤل حول مستقبل أكبر اقتصادات العالم.
فسوق العمل على سبيل المثال تزخر بملايين الفرص الجديدة بينما يسجل معدل البطالة في الولايات المتحدة أدنى مستوياته منذ عقود، ومن المفترض أن يبعث ذلك على التفاؤل بشأن الرخاء الاقتصادي للشعب الأميركي.
لكن على الجانب الآخر، هناك العديد من المؤشرات المقلقة التي تشوّه تلك الصورة الإيجابية الحالمة، وفي مقدمتها زيادة أعداد الأميركيين -خاصة من الجيل Z– الذين يعتمدون على قروض بطاقات الائتمان لسداد نفقاتهم واحتياجاتهم المعيشية.
وينطبق هذا التباين على جميع البيانات الاقتصادية الصادرة حديثاً، فكل تقرير إيجابي تقابله مخاوف جسيمة تمنع المشرعين والخبراء من رسم صورة وردية مبالغ فيها للاقتصاد الأميركي، بل يحرصون على تقديم تقييمات متحفظة يشوبها الحذر.
وذلك على النقيض من المرشحين الرئاسيين جو بايدن و دونالد ترامب اللذين يستخدمان أوصافاً متطرفة للوضع الاقتصادي لخدمة حملاتهما الانتخابية. ففي حين يرى الأول أن الاقتصاد الأميركي «في أحسن حالاته على الإطلاق»، يرى الآخر أن «الاقتصاد ينهار».
ويلقي هذا التقرير نظرة أكثر واقعية على أداء الاقتصاد الأميركي ويرصد الجوانب الجيدة والسيئة والقبيحة لأكبر قوة اقتصادية في العالم.
الجيد – سوق العمل النشطة
تُعد سوق العمل من أبرز نقاط القوة في اقتصاد الولايات المتحدة، إذ توفر حالياً نحو 8.5
مليون فرصة عمل، أي ما يتجاوز عدد الفرص المتاحة في فترة ما قبل الجائحة بأكثر من 1.5 مليون وظيفة.
في المقابل، يُقدَّر عدد الباحثين عن وظائف بـ6.5 مليون شخص، أي أن هناك أكثر من فرصة عمل متاحة لكل عاطل.
وفي العقد السابق على جائحة كوفيد-19، كان هناك أقل من وظيفة متاحة لكل عاطل (0.6 وظيفة)، ما يشير إلى أن أعداد العاطلين كانت تفوق عدد الوظائف المتاحة في ذلك الوقت.
في الوقت نفسه، يزيد متوسط الأجور الحالي عن نظيره قبل الجائحة بنحو 22 في المئة وفقاً لبيانات مكتب إحصاءات العمل الأميركي، ورغم تباطؤ معدل نمو الأجور في الآونة الأخيرة، فإنه يظل أعلى من معدل زيادة الأسعار.
وهذه أنباء جيدة للمستهلكين لأنها تعني أن دخولهم ستصبح أكثر قيمة في مواجهة زيادات الأسعار.
السيئ – التضخم العنيد
رغم تراجع معدل التضخم كثيراً عن المستويات القياسية التي سجلها في صيف 2022، فإنه لا يزال بعيداً عن الحد الحكومي المستهدف البالغ 2 في المئة، وقد يكون الطريق طويلاً نسبياً للوصول إلى هذا الهدف المثالي.
وما زالت البيانات الاقتصادية الواردة تشير إلى اتجاه صعودي للأسعار والنشاط الاقتصادي وإن كان بوتيرة أبطأ قليلاً، ما يعوق مجلس الاحتياطي الفيدرالي -البنك المركزي في أميركا- عن اتخاذ القرار الذي طال انتظاره بالبدء في خفض أسعار الفائدة.
ويتوقع المستهلكون أن يواصل التضخم اتجاهه الصعودي خلال بقية العام الجاري، وفقاً لاستطلاعين منفصلين لآراء المستهلكين بشأن توقعات التضخم.
ويحذر المراقبون من أن تؤثر تلك التوقعات على اتجاه سياسات التسعير لدى الشركات، والتي قد تبدأ في رفع أسعار منتجاتها وخدماتها للمستهلكين.
على الجانب الأكثر تفاؤلاً، أشارت القراءات الأولية إلى تباطؤ الإنفاق الاستهلاكي على منتجات متاجر التجزئة بأكثر من المتوقع خلال أبريل نيسان الماضي، ما يشير إلى زيادة توجه المستهلكين مؤخراً نحو ترشيد نفقاتهم، وبالتالي قد لا تتمكن المتاجر من تمرير الزيادة في الأسعار إلى المستهلك النهائي بعد أن أصبح أكثر عزوفاً عن الإنفاق.
لكن هذا الجانب الإيجابي تشوبه علامات تحذيرية أيضاً، فالإنفاق الاستهلاكي يمثل المحرك الأول للاقتصاد الأميركي، وعزوف المستهلكين عن الإنفاق قد يمثل ضربة موجعة للنمو الاقتصادي، حتى إن كان سيسهم في كبح التضخم.
وتعليقاً على ذلك، قال غريغوري داكو -كبير الاقتصاديين بشركة إيرنست أند يونغ- لشبكة CNNإن تقرير مبيعات التجزئة الأخير يشير إلى أن المستهلكين أصبحوا «أكثر حرصاً فقط» لكنهم لم يتوقفوا عن الشراء بالكامل، لافتاً إلى أن استمرار تباطؤ الإنفاق بوتيرة أسرع قد يؤثر سلباً على أداء الاقتصاد بالفعل.
القبيح – تراكم الديون
أما الجانب الأكثر قبحاً من الاقتصاد هو جبل الديون الذي يثقل كاهل المستهلكين، والذي يتفاقم يوماً بعد يوم.
فأحد الأسباب الرئيسية وراء قدرة المستهلكين الأميركيين على الصمود في مواجهة زيادة الأسعار وارتفاع أسعار الفائدة لأعلى مستوياتها منذ عقود هو لجوؤهم للاستدانة لتوفير نفقاتهم وليس فقط الاعتماد على دخولهم المعتادة.
ووفقاً للبيانات الحديثة، فقد أنفق الأميركيون كل مدخراتهم التي جمعوها خلال أزمة الجائحة، واتجهوا بعد ذلك لقروض بطاقات الائتمان لتوفير احتياجاتهم المالية، الأخطر أن العديد منهم يعجز عن سداد الأقساط المستحقة في موعدها في الكثير من الأحيان.
وإذا وُضع في الاعتبار التباطؤ التدريجي لسوق العمل، فقد تلجأ الأسر الأميركية للاقتراض بشكل أكبر لسد احتياجاتها، ما يزيد فرص العجز الكامل عن السداد، وهو مصطلح يشير إلى عجز المستهلكين عن سداد الأقساط المستحقة لأكثر من 90 يوماً (أي ثلاثة أشهر تقريباً).
وتأثير هذا التعثر لا يقتصر على المقترضين فقط بل قد تنتقل آثاره إلى البنوك والمؤسسات المالية والاقتصاد الأشمل، إذ ستضطر البنوك لتقليص حجم القروض التي تمنحها أو فرض رسوم أكبر على تلك القروض.
كما أن المقترضين سيخصصون جانباً أكبر من دخولهم لسداد الأقساط، ما يقلص الأموال المتاحة للإنفاق على مستلزمات الحياة الأخرى.
وكل هذه العوامل مجتمعة قد تؤدي إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي العام، والذي قد يتحول في النهاية إلى ركود اقتصادي إذا لم يتم التدخل سريعاً لتدارك الأزمة.