رغم احتياطياتها الهائلة من الغاز الطبيعي، تتجه إيران إلى أخطر أزمة طاقة منذ ثورة 1979، بعد أن عم الظلام أرجاء البلاد، فكيف تحولت الدولة الآسيوية من مُصدِّر للطاقة، إلى مستورد محتمل يعاني من أزمة متفاقمة؟
وفي الأيام الأخيرة، اُضطُرت السلطات الإيرانية إلى تقنين الكهرباء، وأمرت بإغلاق المدارس والمكاتب العامة في جميع أنحاء البلاد، فضلاً عن إطفاء الأضواء التي تضيء الطرق السريعة الرئيسية في العاصمة طهران وأماكن أخرى.
وقال المتخصص في الشؤون الإيرانية، د. محمد عبادي «في كل شتاء تتفاقم أزمة الغاز بإيران، لكن هذا الشتاء يبدو مختلفاً عن سابقاته، إذ اُضطُرت السلطات في إيران إلى اتخاذ إجراءات قاسية، تتعلق بدورية انقطاع الكهرباء في المدن الرئيسة، ومنح الموظفين إجازات من العمل، فضلاً عن قطع إمدادات الغاز للمصانع».
وأضاف في تصريحاته لـ«CNN الاقتصادية»، «ترجع المفارقة إلى أن إيران تمتلك الاحتياطي الثاني من الغاز عالمياً».
وحث الرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان المواطنين في رسالة بالفيديو على خفض متوسط درجة حرارة منازلهم بمقدار درجتين مئويتين لمساعدة حكومته على إدارة أزمة الطاقة.
لماذا تفاقمت أزمة الطاقة؟
أشار الخبير محمد عبادي إلى أن تفاقم أزمة الطاقة في البلاد يرجع إلى أسباب عدة، بما في ذلك ارتفاع الطلب على الغاز الطبيعي، وسنوات من العقوبات الأميركية، فضلاً عن تهالك البنية التحتية وسوء الإدارة، والاستهلاك المسرف، والهجمات المستهدفة من قبل إسرائيل.
وقال الرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان في خطاب هذا الشهر، «إننا نواجه اختلالات خطيرة للغاية في الغاز والكهرباء والطاقة والمياه والمال والبيئة، وكلها عند مستوى قد يتحول إلى أزمة»، وبينما كانت إيران تعاني من مشكلات تتعلق ببنيتها التحتية لسنوات، حذَّر الرئيس من أن المشكلة وصلت إلى نقطة حرجة.
وتُقدر التقديرات الأولية أن إيران تواجه عجزاً يومياً في الغاز الطبيعي يبلغ 350 مليون متر مكعب، وعجزاً في الكهرباء قدره 20 غيغاواط، وارتفاعاً حاداً في استهلاك البنزين يصل إلى 15 مليون لتر يومياً، وفيما يلي نظرة معمقة على أسباب أزمة الطاقة في إيران.
1- ارتفاع الطلب على الغاز
تعتبر إيران بين أكبر دول العالم في احتياطيات الغاز الطبيعي المؤكدة التي بلغت 33.98 تريليون متر مكعب في عام 2023، وفقاً لمنظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك)، فيما وصلت صادرات البلاد من الغاز في العام ذاته إلى 12.93 مليار متر مكعب.
وتقدر وكالة الطاقة الدولية أن الغاز الطبيعي هو المصدر الأكبر للطاقة في إيران بحصة بلغت 72 في المئة خلال عام 2022، مقابل حصة النفط البالغة 26.2 في المئة، و0.7 في المئة لكل من الفحم والطاقة النووية.
ولكن يبدو أن الغاز الطبيعي كمصدر للطاقة كان سلاحاً ذا حدين، إذ تفاقم نقص الطاقة الأخير بسبب اعتماد البلاد الرئيسي على محطات الطاقة التي تعمل بالغاز، والتي تمثل ما يتجاوز 86 في المئة من إجمالي إنتاج الكهرباء في البلاد في عام 2023.
ولفت محمد العبادي إلى أن الانخفاض الشديد في درجات الحرارة في عدد من المحافظات الإيرانية، التي تعتمد بشكل كلي على أجهزة التدفئة التي تعمل بالغاز، أدى إلى تفاقم الطلب على الغاز الطبيعي خاصة مع خطط الحكومة الإيرانية الطموحة التي وسعت شبكة الغاز في المدن والأرياف لتغطية مساحات شاسعة داخل المحافظات الإيرانية.
وأجبر نقص الغاز السلطات على حرق المازوت -وهو زيت ثقيل رخيص الثمن وشديد التلوث- لتوليد الكهرباء، ما أدى إلى تفاقم تلوث الهواء في المدن الكبرى، كأحد تداعيات نقص الطاقة في البلاد.
2- بنية تحتية متهالكة
يعاني سكان إيران من أزمة الطاقة بسبب سنوات من إهمال السلطات البنية التحتية ومشاريع الطاقة، وهو ما يثير غضب الإيرانيين الذي يلقون اللوم على الحكومة في الأزمة الحالية.
وقال العبادي في تعليق لـ«CNN الاقتصادية»، «إنّ أولويات الإنفاق في طهران، تضع دعم الحلفاء والوكلاء في الخارج في المقدمة على حساب الاستثمار في البنية التحتية ومشاريع الطاقة العملاقة، فضلاً عن عمليات تهريب الغاز لصالح الحرس الثوري بعيداً عن الموازنة العامة للدولة لدعم مشاريعه في الخارج، وهو ما يتكشف في كل شتاء بأزمة غاز حادة، تضع الحكومة في موقف محرج للغاية».
3- سنوات من العقوبات
على الجانب الآخر، يلقي المسؤولون الإيرانيون اللوم على العقوبات الغربية في نقص الغاز، وتزعم الحكومة أن العقوبات أعاقت الاستثمارات في تطوير حقول الغاز، وبناء محطات الطاقة، وتحسين الكفاءة.
ويقول العبادي، إن أحد أسباب أزمة الطاقة الرئيسية هي العقوبات العقوبات الأميركية التي تحظر على البلاد استيراد إمكانات فنيّة معينة لتطوير خطوط الإمداد، فضلاً عن تخوف الشركات العالمية من العمل في السوق الإيراني لاستشكاف الآبار واستخراج الغاز.
واستهدفت العقوبات، التي تهدف إلى كبح برامج طهران النووية والصاروخية الباليستية، صادرات النفط الإيرانية والبنوك والشحن من بين قطاعات أخرى، وأدت هذه الإجراءات إلى شل اقتصاد البلاد بشكل فعال.
على جانب آخر، تشير بيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية إلى أن إيران كسبت 144 مليار دولار من عائدات النفط خلال السنوات الثلاث الأولى من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن.
4- الهجمات الإسرائيلية
كانت الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على إيران هي الضربة الأخيرة قبل انهيار قطاع الطاقة الإيراني، ومع ذلك تواصل طهران نفي تأثر إمداداتها من الطاقة بالحرب مع إسرائيل.
ويقول عبادي إنه رغم نفي إيران للاستهدافات الإسرائيلية لشبكة وخطوط إمداد الغاز في البلاد، فإنه يظهر أثر هذه الاستهدافات جلياً في الأزمة الأخيرة المتفاقمة.
ويذكر أنه في فبراير شباط، فجرت إسرائيل خطي أنابيب للغاز في إيران، ونتيجة لذلك قامت الحكومة بهدوء باستغلال احتياطيات الغاز الطارئة لتجنب انقطاع الخدمة عن ملايين الأشخاص، وفقاً لمسؤول من وزارة النفط وعضو لجنة الطاقة في الغرفة التجارية، تحدث في تصريحات خاصة لصحيفة نيويورك تايمز.
كيف تواجه طهران هذا الوضع في 2025؟
مع غضب الإيرانيين العاديين وتحذير القادة الصناعيين من أن الخسائر المصاحبة بلغت عشرات المليارات من الدولارات، لم يكن بوسع بيزشكيان أن يقدم أي حل للأزمة سوى الاعتذار، وكانت الحلول المقترحة كلها مؤقتة، ما قد يفاقم الأزمة في العام المقبل.
وقال محمد عبادي لـ«CNN الاقتصادية»، اختار الرئيس مسعود بزشكيان تقديم الوعود بحل الأزمة المستعصية دون وضع خطط تنفيذية، واختار الضغط على المصانع بقطع الإمدادات عنها، مع التزام صارم بتوصيل الغاز للمنازل لتجنب تداعيات أمنية للموقف، عبر إثارة احتجاجات غاضبة.
وأشار عبادي إلى تأزم الوضع الحالي خاصة وسط تراجع مشروع إيران في الإقليم بخسارة سوريا التي أنفقت عليها طهران ما يقارب 30 مليار دولار، فيما كانت البنية التحتية وتطوير مشروعات الرفاه للشعب هي الأولى.
ومع عدم وجود حلول فورية، يتوقع المحللون أن تضطر إيران إلى استيراد الغاز الطبيعي لتلبية الطلب المحلي، وبالتالي قد تستمر الأزمة لفترة في عام 2025، إذا لم تستطع البلاد تلبية الاحتياجات المحلية.
وتظل تركمانستان -التي زودت إيران بالغاز في السابق خلال إدارة محمود أحمدي نجاد، الذي شغل منصب الرئيس من عام 2005 إلى عام 2013- الخيار الأقرب لحصول إيران على الغاز الطبيعي في الفترة المقبلة.