مع تصاعد الهجوم الإسرائيلي على غزة واستمرار القصف على البلد المحاصر، والذي لم تسلم منه المستشفيات؛ انهار القطاع الطبي في غزة، وتعالت أصوات العاملين بالقطاع الطبي من داخل وخارج غزة منادين بوقف لإطلاق النار وفك الحصار على غزة.
الدكتور محمد غنيم لم يغادر المستشفى الذي يعمل به في مدينة غزة منذ أربعة أسابيع، لا يستطيع أن يتذكر آخر مرة نام فيها أو أكل، وملابسه الزرقاء الخاصة بالعمليات ملطخة بدماء المرضى الذين ماتوا بين ذراعيه.
يتشقق صوته تحت وطأة الفظائع التي رآها، أجنة يتم سحبها من أرحام أمهات يحتضرن، وأطفال يعانون من رئتين مسحوقتين يكافحون من أجل التنفس، ويتم نقل زملائه -الأطباء والممرضات وفرق الطوارئ الطبية- إلى مشرحة المستشفى في أكياس الجثث.
«نحن نبذل قصارى جهدنا -ولهذا السبب لم نغادر هنا لعدة أيام- لكن الوضع مروع للغاية»، هذا ما قاله غنيم لشبكة CNN في رسالة صوتية أرسلها يوم السابع من نوفمبر تشرين الثاني، بينما كانت أصوات الفوضى والذعر تتوالى من حوله، وأضاف «لا توجد طريقة لوصف ذلك بأي لغة أو بأي كلمات»، «في كثير من الأحيان أريد أن أذهب إلى الجانب وأبكي، ولكن لسوء الحظ ليس هناك وقت».
غنيم هو طبيب غرفة الطوارئ في دار الشفاء، المعروف أيضاً باسم مستشفى الشفاء، وهي تعني بالعربية «بيت الشفاء»، ولكن في هذا المستشفى –وهو أكبر مجمع طبي في غزة– أصبح هناك الكثير من الوفيات.
انهيار مستشفيات غزة
يعاني مستشفى الشفاء من نقص خطير في المياه النظيفة، والأدوية، والإمدادات، والوقود، ومن ناحية أخرى يواصل آلاف الفلسطينيين الذين أصيبوا أو نزحوا بسبب الحرب التي تشنها إسرائيل ضد حماس، التجمع في عنابره بحثاً عن مأوى من وابل الضربات الجوية الذي لا نهاية له على ما يبدو.
وحاصرت القوات الإسرائيلية يوم السبت منطقة الشفاء من كل الاتجاهات، ما يهدد صحة وسلامة من بداخلها، بحسب الدكتور منير البرش، المدير العام لوزارة الصحة في غزة تحت قيادة حماس.
وقال البرش إن غارة جوية إسرائيلية دمرت مولد المستشفى، ما أدى إلى قطع الكهرباء عن المبنى، بما في ذلك المعدات المنقذة للحياة التي يستخدمها 39 رضيعاً في رعاية الأطفال حديثي الولادة، وأضاف أن ثلاثة أطفال رضع ماتوا بالفعل.
ونفى الجيش الإسرائيلي أن يكون المستشفى تحت الحصار، وقال لشبكة CNN إنه يشارك في «قتال عنيف مستمر» ضد حماس في محيط الشفاء، لكنه رفض التعليق أكثر على قرب قواته من المجمع لأن النشاط العسكري لا يزال جارياً، واتهمت إسرائيل حماس باستخدام المستشفيات كغطاء، وهو ما ينفيه الأطباء في مستشفى الشفاء وحركة المقاومة الإسلامية حماس.
وقال الدكتور غنيم الذي يبلغ من العمر 28 عاماً، «لقد تدربنا على التعامل مع أعداد كبيرة من الضحايا، لكن ليس بهذه الطريقة». «ليس لدينا أي تخدير لعلاج المرضى الذين يعانون من آلام شديدة، والمرضى الذين يعانون من شظايا في الرأس أو البطن، والأشخاص الذين بترت أذرعهم أو أرجلهم».
وأثارت المشاهد المأساوية والمثيرة للقلق من داخل مستشفى الشفاء والمستشفيات الأخرى في جميع أنحاء غزة، دعوات دولية لوقف إطلاق النار والسماح بدخول المزيد من المساعدات إلى القطاع المحاصر، الذي يسكنه نحو مليوني فلسطيني.
تقوم المجموعات الطبية غير الربحية في جميع أنحاء العالم بالتعبئة لجمع الأموال وشحن الأدوية والإمدادات إلى المستشفيات المتعثرة قبل فوات الأوان، ولكن مع تصاعد الوضع في غزة وقلة الحلول الدبلوماسية أو الإنسانية في الأفق، يشعر الكثيرون بالقلق من أن التأخير سيؤدي إلى المزيد من الوفيات.
وقال غنيم من غرفة الطوارئ المزدحمة، «أريد أن أقول للعالم: هذه أزمة إنسانية، هذه إبادة جماعية»، «من فضلكم أوقفوا هذا».
إرسال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة
وعلى بعد أكثر من 7000 ميل، في هيوستن، يخطط مصعب ناصر للسفر لزيارة المجتمعات المحلية حيث يمكنه نشر الوعي حول الوضع في غزة وجمع الأموال للمستشفيات المتعثرة.
يقول هذا الرجل من تكساس، الذي ولد ونشأ في غزة، إن هذا هو كل ما يفعله منذ 7 أكتوبر تشرين الأول، عندما أعلنت إسرائيل الحرب في أعقاب الهجوم الذي شنته حماس وأدى إلى مقتل نحو 1200 شخص واحتجاز أكثر من 230 آخرين كرهائن، وفقاً للسلطات الإسرائيلية.
وردت إسرائيل بفرض حصار وشن غارات جوية مدمرة على قطاع غزة الذي تحكمه حماس، وتقول إسرائيل إن هدفها هو تدمير الجماعة المسلحة وإعادة الرهائن، لكن الشعب الفلسطيني الذي يعيش هناك هو الذي يتحمل وحده العواقب المدمرة لهذه الهجمات.
وأدت الغارات الجوية إلى مقتل ما لا يقل عن 11,025 فلسطينياً، من بينهم 4,506 أطفال، وإصابة أكثر من 27 ألفاً آخرين حتى الآن، وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية في رام الله.
يقول ناصر إن ثلاثة من أقاربه –جميعهم أطفال صغار، بمن في ذلك طفل يبلغ من العمر 8 أشهر فقط– قتلوا عندما تسببت الغارات الجوية الإسرائيلية في انهيار منزلهم، ولكن ليس لديه وقت للحزن، فبصفته الرئيس التنفيذي لمجموعة فجر العلمية الطبية غير الربحية، فهو ملزم بإيجاد طريقة لتوصيل المساعدات والموارد الأخرى إلى المستشفيات المحتاجة.
ويقول ناصر إن هدف فجر العلمي هو جمع ما يكفي من المال لملء خمس حاويات سعة 40 قدماً بالإمدادات الطبية والأدوات الجراحية وأدوات التعقيم، وشحنها إلى غزة.
ويقول ناصر، «الأطباء في غزة لا يستطيعون العودة إلى منازلهم»، وأضاف «إنها صدمة بالنسبة لهم»، ويقول ناصر إنه في بعض الحالات اكتشف العاملون الطبيون أحباءهم بين الجرحى أو القتلى، ما أدى إلى تفاقم المخاوف والقلق الذي يعانون منه بالفعل.
هذه ليست المرة الأولى التي تدعم فيها فجر العلمية المجتمع الطبي في غزة، ويقول ناصر إن المجموعة قادت عدة بعثات جراحية إلى غزة وقامت بتدريب ما يقرب من 100 عامل طبي فلسطيني على الأرض، وفي أغسطس آب قدموا أكثر من 4 ملايين دولار من الإمدادات الطبية للمستشفيات في جميع أنحاء القطاع.
وتقود الجمعية الطبية الفلسطينية الأميركية، وهي منظمة غير ربحية أخرى مقرها الولايات المتحدة، الجهود المبذولة لمساعدة العاملين في مجال الرعاية الصحية في غزة.
وقال رئيس الجمعية الخيرية الدكتور مصطفى مصلح لشبكة CNN، إن المجموعة، التي تضم أكثر من 6000 عضو ومؤيد وتقود بعثات طبية إلى المنطقة، جمعت أكثر من مليوني دولار حتى الآن.
وسوف يستخدمون هذه الأموال لشراء الأدوية والإمدادات الحيوية، بما في ذلك أدوية التخدير والمضادات الحيوية وأدوية أخرى لملء الحاويات التي سيتم إرسالها إلى غزة، ويقول مصلح إن المجموعة لديها أيضاً أكثر من ألف متخصص في الرعاية الصحية على أهبة الاستعداد لدخول القطاع بمجرد أن تسمح إسرائيل ومصر بدخول العاملين في المجال الإنساني.
تعد فجر العلمية والجمعية الطبية الفلسطينية الأميركية من بين العديد من المجموعات الطبية الأميركية التي تقوم بتنسيق الجهود، لكن حتى الآن لم يتمكن سوى القليل من الوصول إلى المستشفيات الواقعة تحت الحصار.
بالنسبة إلى دخول المساعدات لغزة، فمنذ بداية الحرب، سُمح لنحو 900 شاحنة فقط تحمل مساعدات دولية –ولكن ليس الوقود– بالدخول إلى غزة عبر معبر رفح الحدودي مع مصر، وفقاً لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وهذا ليس سوى عدد قليل مقارنة بنحو 500 شاحنة كانت تدخل كل يوم قبل الحرب، وتحذر جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني من أن غزة ستحتاج إلى المزيد من المساعدات بشكل كبير لتلبية الاحتياجات الإنسانية المتزايدة.
مستشفيات غزة في انتظار معجزة
ويقول أحمد مهنا، مدير مستشفى العودة في جباليا، إن الكابوس الحقيقي هو علاج الأطفال الذين شوهوا، الذين يرى وجوههم حتى عندما يغمض عينيه.
وقال مهنا لشبكة CNN في 29 أكتوبر تشرين الأول من المستشفى الذي يعمل فيه في شمال غزة، «إنني ممزق داخلياً وأنا أشاهد أطفالنا وهم يستشهدون ونحن نتلقى أشلاء أجسادهم في هذه المذبحة، في حين أنهم لا ذنب لهم في هذا الصراع».
ويضيف أن الأطباء يقومون بإجراء عمليات جراحية، بما في ذلك عمليات بتر الأطراف، للأطفال الذين لا تتوفر لديهم مياه نظيفة، ناهيك عن التخدير أو المضادات الحيوية، ويتلقى الكثيرون العلاج على الأرض بسبب عدم وجود أسرة فارغة في المستشفى.
ويضيف مهنا الذي يبلغ من العمر 49 عاماً، أن الغارات الجوية الإسرائيلية على المرافق الطبية أو بالقرب منها زادت من تعقيد الأمر، العاملون في المجال الطبي في خطر مستمر.
وحتى العاشر من نوفمبر تشرين الثاني، قُتل 198 عاملاً في مجال الرعاية الصحية وأصيب 130 آخرون في غزة، وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية في رام الله، كما أفادت بأن 21 مستشفى و51 مركز رعاية صحية أولية أصبحت خارج الخدمة.
وتقول إسرائيل إنها تستهدف حماس فقط، التي تتهمها باستخدام المستشفيات للاختباء وشن الهجمات. وتنفي وزارة الصحة الفلسطينية وحركة حماس مثل هذه الادعاءات.
وتقول إسرائيل إن مقتل المدنيين وتدمير المرافق الحيوية، بما في ذلك المستشفيات، هي أضرار جانبية تحاول التخفيف من حدتها، ويجب على الفلسطينيين الفرار إلى مناطق أكثر أماناً، لكن الأطباء في غزة يقولون إنه من المستحيل إجلاء المرضى دون التسبب في المزيد من الوفيات، وإنه لا يوجد مكان آمن حقاً في جميع أنحاء غزة.
وقال مهنا، الذي يعتقد أن الخسائر الكبيرة في الأرواح تثبت أن إسرائيل لا تحاول التخفيف من الوفيات بين المدنيين، «إن القوات الجوية الإسرائيلية ترهبنا ليل نهار فوق منطقتنا الصغيرة في العالم»، «ليس لديهم حدود، ولا خطوط حمراء لا يمكنهم تجاوزها، لقد تجاوزوا كل الحدود من خلال استهداف النساء والشيوخ والأطفال والرجال والمعاقين وكل كائن حي ممكن».
وقد أثارت الفوضى التي اندلعت في مستشفى الشفاء والعودة ومستشفيات أخرى في أنحاء غزة غضب الأطباء، ولكن مع عدم وجود وقف إطلاق نار في الأفق، وفرض رقابة مشددة على الحدود، ما يمنع الإمدادات الحيوية من الوصول إلى المستشفيات، فسوف تستمر وفاة المزيد من الناس.
وقال غنيم، طبيب غرفة الطوارئ في مستشفى الشفاء: «نشعر بالعجز تجاه مرضانا»، «نريد أن نقدم للمرضى الرعاية الصحية المناسبة، ولكن في كثير من الحالات لا يمكننا فعل أي شيء».
في هذه الأثناء، يسارع ناصر ومصلح إلى جمع التبرعات وشراء الإمدادات وتنسيق الشحن إلى معبر رفح الحدودي، حيث ينتظر سائقو الشاحنات بفارغ الصبر الإذن بدخول غزة وتفريغ حمولتهم المنقذة للحياة.
وقال ناصر، «لقد أدار العالم كله ظهره لشعب غزة»، «والآن نحن ننتظر فقط حدوث معجزة».
(آلاء العصار، CNN)