في الوقت الذي يعاني فيه العالم من معدلات تضخم خانقة و أزمة مديونية غير مسبوقة وصراعات جيوسياسية تقوض مسار النمو والأمن الاجتماعي، يستشري الفساد حول العالم فارضاً تساؤلات حول ما إذا كان تحقيق العدالة لا يزال ممكناً.

ووفقاً لتقرير «مؤشر مدركات الفساد» الذي تصدره (منظمة الشفافية الدولية) سنوياً، فإن الاتجاه العالمي لإضعاف أنظمة العدالة أدى إلى تقليل مساءلة الموظفين العموميين، ما سمح للفساد بالتفشي والازدهار.

هذا ولم يتجاوز ثلثا دول العالم درجة الـ50 نقطة من أصل 100 على المؤشر، فيما بلغ متوسط مستوى الفساد العالمي 43 نقطة، وشهدت 34 دولة تراجعاً مسجلة أدنى مستوياتها على المؤشر خلال العام المنصرم.

غياب المساءلة يُفاقم الفساد.. والشعوب هي الضحية

ولفت التقرير إلى تسلل أعمال الفساد -مثل الرشوة وإساءة استخدام السلطة- إلى العديد من أنظمة المساءلة حول العالم، ما يسهم في زيادة عدم المساواة والتمييز وصعوبة الوصول للعدالة لا سيما للفئات الفقيرة والمهمشة، ويعتبر ذلك تهديداً صارخاً للركيزة الأولى لحقوق الإنسان والمتمثلة في المساواة أمام القانون.

وتعليقاً على زيادة معدلات الفساد، قال فرانسوا فاليريان، رئيس منظمة الشفافية الدولية «سيستمر الفساد في الازدهار حتى تتمكن أنظمة العدالة من معاقبة مرتكبي الانتهاكات وإخضاع الحكومات للرقابة، وعندما يتم شراء العدالة أو التدخل فيها سياسياً فإن الشعوب هي التي تعاني، وينبغي على القادة ضمان استقلالية المؤسسات التي تدعم القانون وتتصدى للفساد، لقد حان الوقت لوضع حد للإفلات من العقاب في الممارسات الفاسدة».

ويقيس المؤشر نسب الفساد في القطاع العام لـ180 دولة مستنداً إلى ثلاثة عشر مسحاً وتقييماً مختلفاً للفساد، ويعتمد في ذلك على بيانات المؤسسات الدولية الموثوقة مثل البنك الدولي والمنتدى الاقتصادي العالمي.

مؤشر الفساد العالمي

تكلفة الفساد

واستناداً إلى إحصاءات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإن تكلفة الفساد تشكل 25 في المئة من الإنفاق الحكومي العام الذي وصلت قيمته إلى 13 تريليون دولار في عام 2022، وتستحوذ الرشى الدولية على نصف هذا الإنفاق تقريباً.

وبحسب البرنامج، تسبب الفساد في القطاع الصحي في وفاة 1.6 في المئة من الأطفال دون سن الخامسة أي قرابة 140 ألف طفل سنوياً، بالإضافة لخسارة 500 مليار دولار من الميزانية السنوية المخصصة لقطاع الرعاية الصحية والبالغة 7.5 تريليون دولار، فيما يُهدر ما بين 1.4 و35 في المئة من أموال العمل المناخي بسبب الفساد.

الفساد العابر للحدود

وكشف التقرير أن البلدان التي تحتل مرتبة عالية في مؤشر مدركات الفساد لا تزال جهودها غير كافية في مكافحة الفساد العابر لحدودها الوطنية.

ولفت إلى أن هذه الدول تعاني جميعها من «عيوب نظامية تسمح للأموال المشبوهة بالتسلل إلى النظام المالي العالمي، كما تفشل في ملاحقة مرتكبي الفساد العابر للحدود».

ورغم إشادة التقرير باتفاقيات مكافحة الفساد والقوانين ذات الصلة في بعض الدول، فإنه انتقد تباطؤ تحرك تلك الدول ضد المسؤولين الأجانب، داعياً الحكومات حول العالم لاتخاذ المزيد من الإجراءات المبتكرة لمنع الإفلات من العقاب، لا سيما في الممارسات العابرة للحدود التي قد تؤدي لأضرار خطيرة، مثل الاختلاس الجسيم للأموال العامة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

وناشد التقرير الدول بتوسيع رقعة الإصلاحات المتعلقة بمكافحة غسل الأموال، وكذلك توسيع نطاق تطبيقها ليشمل المهنيين كالمحاسبين ووكلاء العقارات والمحامين الذين يزداد الطلب على خدماتهم من قبل المسؤولين الأجانب الفاسدين.

مؤشر الفساد في الشرق الأوسط

الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: فجوة ثقة

تعتبر مكافحة الفساد إحدى الركائز الأساسية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتكافح دول الشرق الأوسط لوضع استراتيجيات فعالة لمكافحة الممارسات غير المشروعة، لكن العديد منها يتقاعس في تطبيق تلك الاستراتيجيات ما يحد من تأثيرها ويؤدي لزيادة فجوة الثقة بين المواطنين والحكومات، الأمر الذي لا يُقوِّض الاستقرار السياسي فحسب، بل ويهدد بتأجيج النزاعات في مختلف أنحاء المنطقة.

وفي هذا السياق قالت كندة حتر، المستشارة الإقليمية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا لدى منظمة الشفافية الدولية إن «فقدان الزخم في جهود مكافحة الفساد في مختلف الدول العربية يؤدي لتراجُع ثقة الجمهور»، منتقدة لجوء حكومات المنطقة لانتهاج استراتيجية (رد الفعل) بدلاً من (الوقاية).

ولفت التقرير لأوجه الشبه بين كل من العراق (23 نقطة) و لبنان (24 نقطة) في طريقة التعاطي مع ملفات الفساد، وعزا ذلك إلى ضعف الهياكل السياسية والافتقار إلى الإرادة لبناء نظم نزيهة.

وفي ما يتعلق بمصر (35 نقطة)، أشار التقرير إلى أن البلاد لا تزال ضمن الدرجات الدنيا في مؤشر سيادة القانون بسبب «تأثير الجيش على عملية صنع القرار السياسي، ما أدى إلى تقويض القطاع الخاص بشكل كبير والإسهام في الأزمة الاقتصادية».

ورغم مبادرات تعزيز الحوكمة الرشيدة، يعاني الأردن (46 نقطة) من أوجه قصور نهجية، الأمر الذي يعوق قدرة المواطنين على الحصول على فرص متساوية، حيث يعتمد تحصيل الفرص غالباً على العلاقات الشخصية، وفقاً لما ذكره التقرير.

وحذَّر التقرير من مخاطر ضعف الديمقراطية في تونس (40 نقطة) في ظل السيطرة السياسية الكاملة على السلطة القضائية، مشيراً إلى أن «إغلاق هيئة الفساد قد وجَّه ضربة قاسية للمساءلة والشفافية، وعرّض سلامة الناشطين والمُبلِّغين عن الفساد للخطر».

على الجانب الإيجابي، حققت الكويت تقدماً ملحوظاً مسجلة (46 نقطة)، وهو تقدم لافت منذ عام 2015، ويعود السبب في ذلك إلى التزام الحكومة بنهج الإصلاح ومكافحة الفساد وتحقيق التنمية الاقتصادية، وتصدرت الإمارات قائمة الدول العربية الأفضل أداءً من حيث النزاهة مسجلة (68 نقطة) تليها قطر بـ(58 نقطة).

وبشكل عام، تسعى دول الخليج لتعزيز سياسات الحوكمة لديها كحجر أساس نحو تحقيق مستهدفات التنمية المستدامة والتنوع الاقتصادي.

الدول الأكثر تغيراً على مدار 10 سنوات

النزاعات تعزز الفساد

وأشار التقرير إلى الصلة الوثيقة بين الصراعات السياسية وغياب النزاهة.

وهو ما يظهر بشكل واضح في تصنيف بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على مؤشر السلام العالمي 2023، فمع دخول تلك الدول عامها الثامن من الصراعات والحروب، بات تطوير نظمٍ للنزاهة ومكافحة الفساد أمراً بالغ الصعوبة، وسجلت ليبيا (18 نقطة)، واليمن (16 نقطة)، وسوريا (13 نقطة)، والصومال (11 نقطة).

وربط التقرير بين مخاطر الصراعات الجيوسياسية التي تتعرض لها المنطقة وضعف معدلات النزاهة والشفافية، معتبراً التفاوت الكبير بين مستوى الإنفاق على القطاعات الدفاعية ونظيره في قطاعات العدالة والمساءلة أحد الأسباب التي تقوض جهود مكافحة الفساد.