لم يكن قرار اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة إيقاف رفع أسعار الفائدة مؤقتاً في اجتماعها اليوم مفاجأة للأسواق، خاصة على خلفية إعلان العديد من أعضاء الاحتياطي الفيدرالي ذلك.. فالرسالة بسيطة وشديدة الوضوح: ستشهد الأوضاع المالية المزيد من التشديد نتيجة ارتفاع عائدات السندات طويلة الأجل، كخطوة بديلة عن سياسة الرفع المستمر لأسعار الفائدة.

ارتفعت عائدات سندات الخزانة لأجل 10 سنوات نحو 50 نقطة أساس لتصل إلى مستوى 4.9 في المئة منذ اجتماع الاحتياطي الفيدرالي في شهر سبتمبر أيلول الماضي.. وكان السبب خلف هذه الارتفاعات هو تسارع ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية التي ارتفعت من نسبة اثنين في المئة إلى 2.5 في المئة خلال الفترة نفسها.. وفي هذه الأثناء، حافظت معدلات التعادل على مستويات مستقرة، ما أدى إلى المزيد من الارتياح بين صناع السياسات الذين رأوا ارتفاعات تدريجية بتوقعات التضخم منذ مارس آذار الماضي.

وفي محاولة لقراءة أوضاع السوق قبل اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، تُشير العقود الآجلة للسندات إلى أن أسعار الفائدة قد بلغت ذروتها بالفعل، ومن الصعب بمكان أن نتوقع سعي البنك المركزي لمزيد من التشديد للأوضاع المالية، خاصة مع ارتفاع معدلات فائدة الرهن العقاري وقروض السيارات إلى مستويات ثمانية في المئة واتباع معايير إقراض أكثر صرامة، ومع استمرار التضخم فوق المستويات المستهدفة فإن رهان الاحتياطي الفيدرالي يدور حول إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة لمدة أطول، على أمل حدوث ركود اقتصادي محدود.

متى يخفّض الفيدرالي الفائدة؟

يُظهر منحنى الثلاثة أشهر لأسعار فائدة الليلة الواحدة أن الاحتياطي الفيدرالي سوف يخفض أسعار الفائدة ثلاث مرات فقط في عام 2024، بدءاً من شهر يونيو حزيران، أما الأمر الأكثر إثارة للاهتمام فهو ما تشير إليه العقود الآجلة للسندات بأن أسعار الفائدة لن تنخفض إلى أقل من 4.10 في المئة طوال السنوات العشر المقبلة.. ومع تحقق مثل هذا التصور، فلن يكون هناك مجال لارتفاع أسعار السندات، إذ ستبقى أسعار الفائدة عند مستويات أربعة في المئة وهي أعلى مستوى تحقق منذ الأزمة المالية العالمية، وبما أن الجزء الأطول من منحنى العائد سيتعين عليه إعادة التسعير وفق مستويات أعلى من هذا المعدل، فمن المنطقي أن نتوقع أن تحتفظ سندات الخزانة الأميركية طويلة الأجل بمستوياتها الحالية أو ترتفع عليها قليلاً.

تراوحت أسعار عائدات السندات لأجل 10 سنوات تاريخياً من 100 إلى 150 نقطة أساس فوق المعدل المستهدف لصناديق الاحتياطي الفيدرالي، ومن ثم يمكننا أن نشهد تداولاً لعوائد السندات لأجل 10 سنوات في نطاق يتراوح بين خمسة في المئة و5.50 في المئة لبعض الوقت، خاصة إذا ظل المعدل القياسي للفائدة مرتفعاً.

يمكننا الآن رؤية أن منحنى العائدات قد بدأ في الاستقرار مرة أخرى، وفي ظل ما نشهده من وصول أذون الخزانة ذات أجل ثلاثة أشهر إلى معدلات 5.30 في المئة، فليس من المستبعد أن نرى عائدات السندات لأجل 10 سنوات ترتفع نحو هذا المستوى خاصة مع استمرار ثبات الجزء الأمامي من منحنى العائدات.

ولكي نشهد ارتفاعاً في أسعار السندات، يجب أن تنخفض توقعات أسعار الفائدة القياسية إلى ثلاثة في المئة أو أقل؛ سيكون هذا ممكناً في حالة حدوث ركود أو مشكلة متعلقة بالائتمان، وبالأخص حدوث حالة تشبه ما رأيناه في مارس آذار الماضي على خلفية أزمة بنك سيليكون فالي.. كانت عقود أسعار فائدة الليلة الواحدة لمدة ثلاثة أشهر في بداية شهر مايو أيار تعكس توقعات السوق بحدوث انخفاض في أسعار الفائدة إلى 2.70 في المئة بحلول نهاية عام 2024.. إذا لم تتغير هذه التوقعات فلن يكون للعائدات طويلة الأجل فرصة لاختراق منطقة من أربعة في المئة إلى 4.5 في المئة.

وإذا استمر التضخم في تشكيل مصدر قلق، سيكون من الضروري لجميع البنوك المركزية للدول المطلة على المحيط الأطلسي اتباع سياسة نقدية متشددة، وعند نهاية مسار دورة ارتفاع أسعار الفائدة، فإن سوق السندات ستتخذ موقعاً للاستعداد لتخفيضات أسعار الفائدة المستقبلية، مما يؤدي بدوره إلى انخفاض العائدات، وهو الأمر الذي قد ييسر ظروف التمويل ويدعم حدوث المزيد من الضغوط التضخمية.

ارتفاع عائدات السندات

شهد الشهر الماضي ارتفاع العائدات بمزادات قسائم سندات الخزانة الأميركية، تحدث تلك الظاهرة المعروفة بظاهرة الذيل (Tail) عندما تكون أسعار المزاد ذات عائد أعلى من سعر الإصدار.. ومع انخفاض الطلب غير المباشر من مقدمي العروض، يصبح لدينا مؤشر واضح على وجود عدم تناسق بين قوى العرض والطلب.

تتمحور المشكلة حول محاولة وزارة الخزانة الأميركية بيع كميات كبيرة من الأوراق المالية مقارنةً بما كان عليه الأمر قبل جائحة كورونا، على الرغم من الانكماش الملحوظ في الطلب من المشترين التقليديين لسندات الحكومة الأميركية، وأفضل مثال على ذلك هو الاحتياطي الفيدرالي نفسه، الذي كان يشتري السندات منذ ما بعد الأزمة المالية العالمية وحتى جائحة كورونا متبعاً في ذلك سياسة التيسير الكمي، ومع ذلك فقد أصبح الاحتياطي الفيدرالي الآن بائعاً لسندات الخزانة بفضل سياسات التشديد الكمي.

وكذلك فقد أصبح المستثمرون الأجانب يشترون كميات أقل من الأوراق المالية الخاصة بالحكومة الأميركية، خاصة مع الارتفاع الشديد لتكاليف التحوّط ضد مخاطر العملة وتوفر فرص استثمارية أفضل في بلدانهم.. أفضل مثال على ذلك المستثمرون اليابانيون، فهم أكبر الأجانب الحاملين لسندات الخزانة الأميركية، ولكن مع ارتفاع عائدات سندات الحكومة اليابانية لم يعد من المنطقي لهم أن يشتروا السندات السيادية الأميركية أو الأوروبية، التي كانوا يلجؤون إليها تحوطاً من العائدات السلبية للين الياباني.

وبالمقارنة بالعقد الماضي 2010-2020، فقد زاد إصدار القسائم بنحو 60 في المئة للأوراق المالية ذات الآجال تتراوح بين 10 و30 عاماً.. لقد تحوّلت وزارة الخزانة من بيع 22 مليار دولار في المتوسط من سندات الخزانة الأميركية ذات أجل 10 سنوات كل شهر قبل الجائحة، إلى البيع بقيمة 36 مليار دولار شهرياً في المتوسط خلال الربع الأخير.. ومع تصاعد وتيرة الحرب في الشرق الأوسط ودخول الولايات المتحدة الأميركية عام الانتخابات، فمن المرجح استمرار ارتفاع مستويات الإنفاق مما يتطلب المزيد من الاقتراض من وزارة الخزانة الأميركية.

ما الذي يعنيه ذلك للمستثمرين؟

من المتوقع أن يزداد التباين بين العائدات قصيرة الأجل وطويلة الأجل على منحنى العائدات بالولايات المتحدة، ما لم يحدث تغيير واضح في رؤية الأسواق.

ونتيجة لهذه البيئة المحيطة، فإننا نواصل تفضيلنا للجزء الأمامي من منحنى العائد حتى فترات استحقاق تصل إلى ثلاث سنوات وفترات تمويل ذات أجل 10 سنوات.

وتسهم استراتيجية الحديد (Barbell Strategy) أو بناء مراكز مالية تجمع بين الآجال القصيرة والطويلة في تمكين العملاء من الاستفادة من العائدات المرتفعة من جهة مع التمتع بمزيد من الحماية بفضل سندات الخزانة الأميركية ذات أجل 10 سنوات في حالة حدوث ركود اقتصادي.

* ألثيا سبينوزي هي خبيرة استراتيجية في الدخل الثابت لدى ساكسو بنك

** الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر «CNN الاقتصادية».