على مدار تاريخ إسرائيل الممتد لأكثر من سبعين عاماً، لم يشهد الصراع بين الدولة الإسرائيلية والفلسطينيين هذا القدر من الاهتمام العالمي الواسع في أي وقت مضى، فبعد مرور نحو شهر على بدء التصعيد الأخير في السابع من أكتوبر تشرين الأول، ما زالت أحداث غزة تتصدر عناوين الصحف والأخبار حول العالم.
ولم تقتصر أصداء الصراع هذه المرة على الأوساط السياسية ومراكز صنع القرار في العالم، بل امتدت لتشمل الرأي العام ومجتمع الأعمال و الفنانين و المشاهير والأوساط الأكاديمية و الإعلامية، لتُحدث انقساماً واستقطاباً هو الأكبر في تاريخ هذا النزاع الطويل.
ومن أبرز تلك الانقسامات حالة الاستقطاب الشديدة التي شهدتها الأوساط الأكاديمية في الولايات المتحدة، والتي شملت عدداً من كبرى الجامعات الأميركية أمثال هارفارد، وستانفورد، وبنسلفانيا، وكولومبيا.
فقد أثار انتقاد بعض الطلاب للجانب الإسرائيلي غضب العديد من كبار المانحين الداعمين لإسرائيل بتلك الجامعات، والذين هددوا بسحب تمويلهم ما لم تبادر إدارات الجامعات بإبداء موقف أكثر وضوحاً لإدانة حركة حماس ودعم موقف إسرائيل، كما هددوا بعدم تعيين الطلاب الذين يثبت تورطهم في إدانة إسرائيل.
وارتفعت معدلات الوقائع المرتبطة بمعاداة السامية بأكثر من 400 في المئة في الولايات المتحدة منذ هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على إسرائيل في 7 أكتوبر تشرين الأول الماضي، منها 54 واقعة على الأقل داخل مقرات الجامعات، وذلك وفقاً لرابطة مكافحة التشهير غير الحكومية المعنية بالدفاع عن الحقوق المدنية.
وفي تصعيد جديد ضد الجامعات، قامت عشرات المؤسسات القانونية الكبرى الأسبوع الماضي بإرسال خطاب مشترك -اطلعت شبكة CNN على نسخة منه- للجامعات الأميركية لحثها على مكافحة موجة «معاداة السامية» المتصاعدة داخلها، مؤكدين أن فشلها في القيام بذلك سيكبدها خسائر حقيقية كعدم تعيين خريجيها.
وفي مطلع هذا الأسبوع، نشر الملياردير الأميركي بيل أكمان خطاباً موجهاً لرئيس جامعة هارفارد على منصة إكس مكرراً تحذيره للجامعة من أن عدم اتخاذها خطوات حقيقية لمناهضة «الزيادة الصارخة في معاداة السامية» داخل الحرم الجامعي سيضعها في «موقف خطير»، على حد وصفه، وأكمان هو أحد خريجي الجامعة وواحد من أسخى متبرعيها.
وبين تهديد المانحين بسحب تبرعاتهم وخشية انتهاك حقوق حرية الرأي، تواجه الجامعات الأميركية وضعاً متأزماً للغاية.
لماذا تحتاج الجامعات لتبرعات المانحين؟
تعتمد مؤسسات التعليم العالي على العديد من مصادر التمويل لتلبية احتياجاتها المالية، ومنها التمويل الحكومي، والمنح، والتبرعات، والرسوم الدراسية التي يسددها الطلاب مقابل الحصول على درجاتهم العلمية.
وعلى الرغم من أن الرسوم الدراسية تشكل القسم الأكبر من مصادر تمويل الجامعات، فإنها تفي بأقل من نصف التزاماتها المالية فقط، بحسب بيانات الاتحاد الوطني لأعمال الجامعات والكليات الأميركية.
في الوقت نفسه، شهد حجم التمويل الفيدرالي المُقدم لمؤسسات التعليم العالي بالولايات المتحدة تراجعاً خلال السنوات الأخيرة ليزداد اعتمادها بشكل أكبر على الرسوم الدراسية، لكن تلك الرسوم ذاتها تواجه ضغوطاً مع زيادة عزوف الطلاب عن التعليم الجامعي لارتفاع تكلفته.
لذلك تعتمد الكثير من الجامعات على التبرعات السخية التي يمنحها المتبرعون لتمويل برامجها التعليمية وتطوير أدائها الأكاديمي، إذ مثلت هذه التبرعات أكثر من 11 في المئة من إجمالي إيرادات مؤسسات التعليم العالي في عام 2022، بحسب بيانات الاتحاد، وتم توجيه نحو 50 في المئة منها كإعانات للطلاب الراغبين في مواصلة تعليمهم الجامعي.
وبحسب بيانات المركز الوطني لإحصاءات التعليم، بلغت القيمة السوقية لصناديق منح الجامعات الأميركية 927 مليار دولار في عام 2021، أي ارتفاعاً بنسبة 43 في المئة على العام السابق حينما سجلت 692 مليار دولار، وحظت جامعة هارفارد المرموقة للأعمال بالنسبة الأكبر منها بقيمة 53 مليار دولار.
انكماش التمويل الفيدرالي
شهد التمويل المقدم من الحكومة الفيدرالية للجامعات الأميركية تراجعاً ملموساً خلال السنوات الأخيرة، فعلى مستوى 32 ولاية تراجع التمويل المقدم لكل طالب بنحو 1500 دولار من عام 2008 حتى عام 2020، وفقاً لإحصاءات الرابطة الوطنية الأميركية للتعليم.
وهذا يعني أن العبء الأكبر من تكاليف التعليم انتقل إلى كاهل الطلاب وأسرهم، فكلما تراجع الإنفاق الحكومي على التعليم زادت الرسوم الدراسية تلقائياً.
وانعكس ذلك بشكل واضح في الزيادة الهائلة في حجم القروض الطلابية التي تضاعفت بثلاثة أمثال على مدى الـ15 عاماً الماضية، لتقفز من 619 مليار دولار في عام 2008 إلى 1.77 تريليون دولار في الربع الأول من عام 2023، وفقاً لبيانات مجلس الاحتياطي الفيدرالي.
تراجع الإقبال على التعليم العالي
وما يزيد أهمية المنح والتبرعات للجامعات الأميركية التراجع المستمر في الإقبال على التعليم الجامعي بالولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة.
فقد أصبح الطلاب أقل ميلاً للالتحاق بالبرامج الجامعية التقليدية نتيجة ارتفاع الرسوم الدراسية، وزيادة حجم القروض الطلابية، وظهور المزيد من البرامج الدراسية البديلة التي يمكن الانتهاء منها في وقت أقصر وبتكلفة أقل.
وكشف تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي في وقت سابق هذا العام عن تراجع طلبات الالتحاق بالتعليم الجامعي بالولايات المتحدة في عام 2022 بنحو أربعة ملايين طلب مقارنة بما كانت عليه قبل 10 أعوام، ورغم أن جائحة كوفيد-19 لعبت دوراً مؤثراً في ذلك، فإن أقل من نصف الطلاب أكدوا أنهم يعتزمون مواصلة مشوارهم الجامعي بعد الجائحة، بينما أكد 13 في المئة أنهم غير راغبين في مواصلة تعليمهم، مقابل 41 في المئة قالوا أنهم غير متأكدين.
تغيّر النظرة للتعليم الجامعي
لعقود طويلة، كان يُنظر للشهادات الجامعية باعتبارها بوابة عبور للمستقبل للطبقة الوسطى، لكن ارتفاع رسوم التعليم وطول سنوات الدراسة قلل جاذبية هذه الشهادات بشكل كبير في الآونة الأخيرة، وهو ما يفسر أن 37 في المئة فقط من الأميركيين في الفئة العمرية 25-44 عاماً حاصلون على شهادات جامعية، وفقاً لتقرير المنتدى.
على الجانب الآخر، أبدى الكثير من الطلاب الأميركيين استعدادهم للالتحاق ببرامج التعليم الإلكتروني الأقصر والأقل تكلفة، خاصة إذا كانت ترتبط بمهارات المستقبل.
ولا يقتصر هذا التوجه على المجتمع الأميركي فقط، إذ أظهر استطلاع أجرته شركة (تشيغ) لتكنولوجيا التعليم أن ما يقرب من ثلثي الطلاب حول العالم (نحو 66 في المئة) يفضلون برامج التعلُّم الإلكتروني إذا كانت أقل تكلفة من التعليم الجامعي التقليدي.